تحقيق: وسام رشيد
اريد أن ابتدأ هذا التحقيق الصحفي بتجربة شخصية كانت قد دعتني لفتح هذا الملفالخطير الملامس لحياة المواطنين الذين يعانون الأمرين، بين مطرقة الإهمال الحكومي،وخطر جشع الكثير من الاطباء في العيادات الخاصة في العراق.
قبل اسبوعين شعرت بتحسس بسيط في الجيوب الانفية، وكانت اعراضه مزعجة لدرجةعطلت جميع قدراتي في العمل والكتابة، وكانت شكوكي تنحسر حول التهاب الجيوبالانفية، لكني لم اكم متأكداً، ولبساطة هذه الحالة المرضية قررت ان اراجع احد الاطباءالمختصين والمعروفين في محافظة النجف (ع. م) دفعت كشفية 20 ألف دينار وانتظرتلساعة ونصف كمت احمل الرقم 24، ثم جاء دوري ودخلت غرفة الطبيب الذي لم يتأخر فيتحديد وتشخيص وكتابة علاجة الحالة البسيطة وهي تحسس الجيوب الانفية، وفوراًقمت بصرف الوصفة التي كلفتني 30 الف دينار عراقي ليكون ما بذلته من مال وفي اقلمن ساعتين ولحالة بسيطة ولمواطن دخله متوسط هو 50 الف دينار عراقي.
دفعني ذلك للتفكير ملياً ، ماذا لو كنت اعاني من مرض في القلب، او الكبد، او الانزلاقاتفي العمود الفقري او اي مرض حساس في الدماغ او المعدة يتطلب مزيداً من التحليلات،والتشخيصات عبّر اجهزة تتطلب مزيداً من المال، وهو ما لا يتوفر لغالبية ابناء الشعبالعراق، وبحكم قطعي لا لبس فيه.
قررت التوجه لسؤال عدة مراجعين لهذه العيادات لكن قبل ذلك دعوني أشرح طبيعةالعلاقة بين الأطباء والصيادلة في العيادات الخاصة لنسبة قد تتعدى الـ%50 من اعدادتلك العيادات، ولحساسية ذكر الاسماء او الاشارة لرموزهم سأحتفظ بمصادر معلوماتيلضمان عدم الملاحقة القانونية والعشائرية لجملة من الاطباء والصيادلة ومندوبيشركات الادوية المتعاونين في اعداد هذا التحقيق:
ترسل شركات الادوية مندوبيها الى الاطباء الاختصاص لعرض مزايا الدواء الجديد بهدفدفع الطبيب الى صرفه للمريض، فيقوم المندوب بعرض نسبة الطبيب المالية وبعضالامتيازات الاخرى كالهدايا والمبالغ المالية المقطوعة او السفرات الخارجية، على حسابنوع المادة المستخدمة في الدواء وجودة الشركة وفعالية المفردة، وبعد ذلك يقوم الصيدليبتنفيذ مذكرة الاتفاق بين الطبيب والمندوب مجبراً او متطوعاً حسب طبيعة الشخصوسلوكياته، فإن كان متطوعاً ستكون له نسبة وفائدة، وهم الاعم الاغلب من نسبة الـ%50 التقريبية المذكورة، والاخرين المجبورين على تنفيد هذا العقد الشفهي هم شركاء بشكلمباشر وضمني في عملية استهلاك واستنزاف المواطن.
وعلى سبيل المثال يرتفع سعر اي مفردة دوائية من 6 دولار للشريط او القطعة الواحدةالى 12 دولار، وهو غاية في الجشع والفحش في سياسة تحديد الاسعار السائبة التي لاتنضبط بأي قانون او لائحة حكومية ضمن سلسلة المؤسسات الرقابية المشلولة، والتي لايتعدى عملها سوى مجموعة محاضر ورقية لا قيمة لها، فالواقع هو الذي يتحدث وليسالورق.
يصطلح على هذه العملية (Deal) ويشار لمجموع الاطباء المتعاملين بهذا النظام بـ(الدلچّية) وهو أمر غير مستحسن في الاوساط الطبية لكنه واقع حال، ويمكنني القول انهنظام غير انساني وغير اخلاقي يستخدم لتضخيم ثروات الشركات والمتعاونين معها منالاطباء والصيادلة.
توجهت بسؤال لمندوب شركة مبيعات عن هذه الثلاثية – المندوب – الطبيب – الصيدلاني
رد قائلاً:
“اهم ثغرة بعلاقة الشركة و عدد من الاطباء هي نوع من انواع (الابتزاز ) نكدر نسميهابان يتم طلب مبالغ مالية مقابل كتابة نوع معين من الدواء حتى و ان كانت ذات جودةمعتبرة
ولا نبرأ بعض الشركات (عدد قليل منها )ذات النوعية الرديئة بعرض الاغراءات الماليةمقابل كتابة ادويتها ذات الفعالية القليلة او غير الفعالة“
لك ايضاً ان تتخيل حجم التعاون بين اصحاب المهنة التي يفترض ان تقدم خدمة انسانيةبمفهوم رسالة ملائمية لازلنا نتغنى بها في المحطات الاعلامية كثيراً.
بعدها شرعت في استعراض بعضاً من معاناة المواطنين المراجعين لهذه العيادات:
التقيت المواطن (م.خ) مراجع في عيادة الطبيب (ح.م) كان منهاراً بشكل كبير اذ تُكلفالوصفة الطبية له مبلغ 800 الف دينار فيما عدا التحليلات التي كلفته 150 الف دينار،اخذت الوصفة الطبية وارسلتها عبر الوات ساب لاحد الاطباء المحايدين من (وجهةنظري) فجائني الرد:
هذه الادوية زائدة عن حاجة جسم المصاب بفايروس كورونا ولا تتطلب اصابته كل هذهالادوية والأبر، كما ان اغلب التحليلات لا حاجة للطبيب بها ليشخص المرض.
لك بعد ذلك ان تفهم حجم الاستغلال والاضطهار لهذا المريض الذي يدفع ثمن تحالفالطبيب والصيدلاني والمختبر !
ونقل لي احد العاملين بشركات الادوية عن حجم وكمية استغلال بعض شركات الخصوبةو الاطباء الجشعين للمرضى اذ ان ارتفاع اسعار بعض المواد يصل الى الضعف رغمغلاءها،
تابعنا التحقيق بسؤال لمراجعة لطبيبة نسائية : انها لا تملك المال الكافي لشراء وصفةالطبيبة التي تراجعها مما اضطرها الى ترك المراجعة في العيادة والاقتصار فقط علىالتشخيص!
احد العاملين في مجمع طبي وسط حي الاسكان بمدينة النجف الاشرف قال:
كثير من المراجعين يكتفون بتشخيص المرض ولا يذهبون للصيدليات المجاورة ويحاولونالحصول على الادوية من المؤسسات الحكومية او انهم يذهبون به الى الجامع !!
نعم الجامع او الحسينية لجمع مبلغ العلاج او الاكتفاء فقط بالتشخيص ليتسنى معرفةالعلة ومعالجتها بعيداً عن شراء الدواء كونهم غير قادرين على ثمنه.
الصيدلاني (م . م) قال :بعض الصيادلة عمدو الى انشاء صندوق لجمع المال والادويةالنادرة او المرتفعة الاثمان لمحاولة دعمهم بعض الحالات التي لا تستطيع مطلقاً توفيرمبالغ العلاج الباهضة.
تحدثت ايضاً مع احد الاطباء الذين يحملون هموم المواطنين الذين يدفعون حياتهم ثمناًلاخطاء ترتكب نتيجة التشخيصات غير الدقيقة من قبل بعض الأطباء الذين يكشفوناعداداً تتراوح بين 30 الى 60 مريضاً خلال بضع ساعات قليلة وبتزاحم واختلاط غيرمقبول في اماكنهم عياداتهم الخاصة ومختبرات التحليل والاشعة والسونار وغيرها.
الملفت والمثير للدهشة إن المستشفيات والاستشاريات الحكومية غير معنية بالمطلق بكلهذه الكوارث الانسانية رغم حجم الانفاق الحكومي العالي، واعتادت الدولة مراراً علىتبرير وتبريد حرارة المواطنين بعنوان قلة التخصيصات، او ضعف الكفائة للكوادر التيتعمل بتململ بالقطاعات العامة، وبحماسة وتفاني ملحوظة في العيادات والمشافيالخاصة.
المثير أيضاً ان في محافظة النجف انتشرت المستشفيات الخاصة والمراكز الطبية المتطورةجداً، وخلال السنوات القليلة الماضية نَمَت هذه المراكز على نطاق واسع جداً بمختلفالاختصاصات، حتى بدت محطات تجارية هدفها التربح، والمعادلة السارية هنا ان نموهذه المؤسسات الخاصة يقابله تقويض وانحسار للمؤسسات الصحية العامة وبدتكإنها بنايات مهجورة ومفجوعة ومنهوبة.
من البديهي (مهنياً)ان نتحدث في هذا التحقيق مع مسؤولين حكوميين او نقابيينلتوفير فرصة التبرير التي تحدثت عنها سابقاً، لكني آثرت ان أصادر هذه الفرصة لسببينأولهما ؛ احترام آلام ووجع المرضى المهملين في المستشفيات الحكومية، والمُستغلين و(المقطوطين) في العيادات الخاصة، والثاني اعتقادي اني لن اسمع سوى العبارات التيتحدث بها اسلافهم واسلاف اسلافهم من المُشخصين والمنظرين، فلا حاجة للقارىء بتلكالأقاويل لأن الواقع يتحدث بملىء فمٍ يتغرغر بالدم والعوّز وشبح الموت .