نهاد التكرلي رائد النقد الأدبي
الحديث في العراق والعالم العربي
ولد التكرلي نهاد في بغداد عام 1922 من عائلة توصف بأنها ميسورة الحال في ( باب الشيخ )
ويذكر نهاد أنه وأخيه فؤاد من زوجة ثانية تزوجها أبوه عام 1902 فكان نهاد ولدها البكر
وأدُخِل وهو صبي مدرسة قرآنية ( كتّاباً) في حضرة الشيخ عبد القادر الگيلاني فتعلم فيها قراءة القرآن ودرسهُ
وحينما بلغ السابعة من عمره
أدخل مدرسة ( التسابيل الإبتدائية )
وأنهى دراسته الثانوية عام (1940)
فدخل كلية الحقوق في بغداد وتخرج فيها عام (1944)
بدأ التكرلي العمل في وزارة العدل لتحسين وضعه المعيشي وصار بإمكانه أن يشتري الكتب والمجلات والأسطوانات ويشبع هواياته الخاصة
في عام 1949 عُين التكرلي نهاد قاضياً في محكمة بعقوية فانتقلت الأسرة إلى هناك
وبقيت فيها حتى نقل إلى بغداد عام 1952قاضياً في محكمة بداءة العمل كان خلال هذه الحقبة منطوياً على نفسه منكباً على قراءة الكتب والاستماع إلى الموسيقى ولكن الأدبيات الوجودية والترجمة منها والكتابة عنها كانت هي شاغله
حتى إنه كان لم يكن على استعداد لاستقبال ضيوف أخيه فؤاد التكرلي أو الخروج من غرفته للسلام عليهم فكان مستوحشاً لا يكلم أحداً
بعد المقدمة الذاتية عن حياة الناقد
نهاد التكرلي
كان لابد من التعريج لدور التكرلي
في ادخال قيم ومفاهيم جديدة في
نقد القصة والشعر والمسرح والمقال ودوره الكبير في التعريف بالمذاهب النقدية الجديدة التي شاعت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ودوره البارز في الترجمة وسنتطرق لذلك تباعاً
كان لنهاد دوراً مهمة في ترجمة الكثير من الأعمال الأدبية الفرنسية الوجودية الأدب و السارترية على وجه الخصوص ويعتبر ( الغريب) لألبير كامو وفلسفته الوجودية العمل الأول الذي ترجم من الفرنسية ويقول عنها
لقد قرأت القصة بالفرنسية وأعجبت بها غاية الأعجاب حتى أنني قرأتها مراراً وترجمتها للعربية وهي ترجمة اقتصرت على إطلاع بعض الأصدقاء عليها ولكن لم يتيسر لي نشرها
وترجم كذلك فصلاً كاملاً من عمل ( الذباب ) لسارتر ونشره في مجلة ( نزار ) ويقول التكرلي في هامش دراسه له عن المسرح الوجودي نشرت في مجلة ( الأديب ) اللبنانية
أنه ترجم مسرحيتي سارتر ( موتى بلا قبور ) و ( البغي المجله )
ونشر التكرلي في عام 1953 الفصل الثاني من مسرحية كامو ( العادلون ) عن اللغة الإنكليزية وفي عام 1954 ترجم مقالة لسارتر ونشرها في مجلة الأديب بعنوان (القصدية فكرة في فلسفة هوسرل الظاهراتية)
وفي العام نفسه نشر في مجلة ( الكاتب العربي )العراقية ثلاث قصص قصيرة مترجمة دون إن يذيلها باسمه هي ( الجمركي ) و ( البحيرة ) و ( من الواقع ) وهذا ما قاله في شهادته
وفي عام 1972 نشرت المديرية العامة في وزارة الثقافة والإعلام رواية (مودير كونتابيل) لمارغريت دورا ومع الرواية فقرات من مقالات كتبت عنها في الصحافة الفرنسية
ونشرت دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 1986 مجموعة من القصص القصيرة ترجمها التكرلي عن الفرنسية وكانت بعنوان
( أقاصيص معاصرة ) ونشرت له الدار نفسها عام 1991 كتاباً مترجماً
بعنوان ( عالم الرواية ) وهو من تأليف رولان بورنوف و ريال أونليه
وترجم مسرحية لروبير نانجيه عنوانها ( رسالة ميتة ) وترجم وليم فوكنر المعروف ( نور في آب )
وكذلك كتاب لميشيل ريمون عنوانه (الرواية الفرنسية منذ الثورة الفرنسية )
وتعد هذه الترجمات كل ماتوصلنا له
من اعمال التكرلي المنشورة والبعض الآخر لم ينشر ومنها
(اقاصيص معاصرة ) وكتاب آن فيليب الموسوم (لحظة انطلاق آهة ) ورواية ( البشر فانون جميعاً) لسيمون دي بوفوار
أما التكرلي ناقداً
فكان هاجسه الأول تحديث القصة والشعر والمسرح والنقد الأدبي العربي ولتحقيق هذه الأهداف قام التكرلي بثلاث سبل
الأول تحليل بعض الروايات العالمية وبعض شخصياتها وفي هذا المجال قدم التكرلي ثلاث دراسات لم يسبقه إليها أي ناقد عربي الأولى بعنوان شخصيات دستوفسكية
والثانية بعنوان التمرد في الأدب الفرنسي المعاصر
والثالثة بعنوان سيمون دي بوفوار ومشكلة الموت
أما الهدف الثاني فكان عرض وتقديم مفاهيمه الأدبية ومعاييره الجمالية الجديدة وهي معايير وجودية سارترية خالصة فكتب التكرلي سلسلة من المقالات والدراسات عن فن القصة والرواية عرض من خلالها
هذه المفاهيم محاولاً إيصالها إلى الكاتب العربي وهس
(التطور الفني للقصة الحديثة ) ومقاله ( العيون الخضر وفن الأقصوصة ) ومقاله ( مفاهيم في الفن القصصي ) والمقدمة التي كتبها لقصة (البحيرة ) المنشورة في مجلة ( الكاتب العربي )
وكذلك المقدمة التي كتبها لقصة ( الجمركي ) المنشورة في المجلة نفسها ويدخل في السياق نفسه الرأي الذي أبداه لنفس المجلة حول الأدب العربي والآداب العالمية وكذلك الرأي الذي أبداه حول (الأديب التقدمي ) والتفت إلى الشعر في مقال خاص فريد هو مقاله (عبد الوهاب البياتي المبشر بالشعر الشعبي ) غير أنه تطرق للشعر في أكثر من مقال من مقالاته التي سبق ذكرها وكانت جميع هذه الدراسات والمقالات جديدة على القاريء العربي وعلى الغالبية العظمى من الأدباء العرب ويمكنني الجزم إن المفاهيم التي عرضها التكرلي لم يسبقه أحد إلى تقديمها آنذاك
أما الهدف الثالث فكان تطبيق مفاهيمه ومعاييره النقدية على الأعمال الأدبية
ولنبدأ بمفهوم عام هو مفهوم الإلتزام فتبنى التكرلي مفهوم سارتر بشأنه وطالب بأن يكون الأدب الملتزم ( أدب نضال ) ( مواقف نهائية ) ودعى الأدباء العرب لتبني هذا المفهوم وقدم كذلك مفهوم العلاقة بين (التقنية ) و( الموضوع ) وبين (الخيال ) و (الواقع ) في القصة وسّفه التكرلي كل الآراء التي تفصل
بين (التقنية) و (الموضوع)
وكذلك قدم مفاهيم جديدة حول (لغة الشعر ) و ( لغة النثر ) وعرض هذا المفهوم في مقال كتبه ليكون مقدمة لديوان الشاعر تبد الوهاب البياتي ( أباريق مهمشة ) وميز بينهما
وقدم مفاهيم جديدة حول استخدام اللهجة العامية في الحوار القصصي وكان هذا الموضوع مثاراً في وقته في العراق والوطن العربي
وكذلك جاء بمفهوم جديد حول المقال الأدبي واعتباره عملاً إبداعياً شأنها شأن القصة ويعتبر بهذا المفهوم أول كاتب عربي جاء بهذه الرسالة ولم يسبقه أحداً في وقتها
وبهذا المنجز الكبير والمتجدد كانت له مكانة كبيرة بين النقاد العراقيين والعرب في الفترة التي امتدت من بداية 1950 ونهاية 1954
رغم قصر الحقبة ولكن نشاطه كان غزيراًوكثيفاً ومتواصلاً لا فجوه فيه ولا انقطاع ولا نجور على أحد إذا قلنا إن التكرلي نهاد رائد النقد الأدبي الحديث في العراق
فلو نظرنا إلى واقع النقد العراقي فيه منذ عام 1939 حتى عام 1955 واستثنينا منه كتابات التكرلي لم نجد فيه غير النقد التقليدي بأنماطه التأريخية و اللغوية والبلاغية والذوقية والآيديولوجية وحتى هذه الأنماط كانت ضعيفة في غالب الأحوال وتفتقر إلى التأسيس النظري والوضوح المنهجي وبراعة الملاحظة وكان السمة الغالبة على أكثره هي الفجاجة والسطحية
ولهذا كان التكرلي أشبه بشهاب سطع ضوؤه في عتمات النقد فجأة ثم اختفى وتلاشى بسرعة
أما مكانة التكرلي عربياً في تلك الفترة وبعد انصراف طه حسين وعباس محمود العقاد
إلى عالم الدراسات الفكرية والتاريخية أصبح النقد الأدبي بالنسبة لكليهما نشاطاً ثانوياً بل هامشياً
والصمت المطبق بنفس الفترة لكل من أحمد أمين وأحمد حسن الزيات وإبراهيم المازني وزكي مبارك أما بسبب الشيخوخة أو الموت
وأما الجيل الجديد من النقاد ونعمي لويس عوض وسيد قطب ومحمود مندور فمنهم من انسحب انسحاباً مؤقتاً ومنهم من انسحب انسحاباً نهائياً فلويس عوض ذهب في بعثة ثانية إلى أمريكا ولما عاد لم يقدم أي شيء جديد على صعيد الفكر أو المنهج النقدي
وذهب سيد قطب في بعثة إلى أمريكا هو الآخر ولما عاد من بعثته طلق النقد وتفرغ للعمل السياسي ولحق محمد مندور بسيد قطب
فتفرغ مثله للعمل السياسي
هذا في مصر أما في لبنان فكان ميخائيل نعيمة ومارون عبود قد توقفا عن ممارسة النقد ولم يعد لهما في أي حالة ذلك الصوت المؤثر
الذي كان لأولهما في الغربال ولثانيهما في (على المحك) و ( مجددون و مجترون )
أما رئيف خوري في لينان فكان متنوع الاهتمامات وكان النقد أقل اهتماماته
وقد حاول أنور المعداوي في مصر
أن يملأ هذا الفراغ النقدي ب (تعقيباته) ولكن دونما جدوى
وفي هذه الفترة وفي صل هذا الفراغ النقدي الذي لاحظناه برز ناقد عراقي جديد هو نهاد التكرلي
ومع ذلك وبغض النظر عن هذا الفراغ دعونا نلتمس مكانة التكرلي بين أبناء جيله من النقاد العرب سواء من سبقه كالدكتور محمد مندور والدكتور لويس عوض وسيد قطب أو من زامنه كأنور المعداوي ومحمود أمين العالم في مصر وعلي سعد الدكتور في لبنان
والدكتور إحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا فلو قارنا كتابات التكرلي بكتابات هؤلاء النقاد
لوجدناها أما أكثر حداثة من كتاباتهم مجتمعين أو هي سابقة عليها في حداثتها
ولا نقول هذا تحيزاً وتحزباً بدوافع شخصية أو قطرية بل نقولها بدوافع أدبية خالصة
ولهذا فأنا أرى التكرلي لم يكن سباقاً بين النقاد وكتبة النقد في العراق وحسب بل كان كذلك في الوطن العربي ولا أريد الإنتقاص من أدوار النقاد الذين أتيت على ذكرهم ونكران جهودهم النقدية الكبيرة
بل أريد بذلك وضع التكرلي نهاد في المكانة التي يستحقها في تأريخ النقد الأدبي الحديث
وكان للأستاذ سامي مهدي في كتابه عن التكرلي الفضل الكبير بجمع هذا الكم الهائل من الشهادات والحقائق الثابتة ووضع الاستاذ
نهاد التكرلي في المكان الذي يستحقه على الصعيد المحلي والعربي
عبد الكاظم عبيد