حامد المالكي
إذا لم تمت بانفجار في العراق ، فستموت بقوس ونشاب في هولندا!
أذكرها جيدا، تلك التي صفاتها من معاني اسمها، “مارال”، ذات يوم سألتها: “ما معنى اسمك بالعربية؟” ضحكت ضحكتها المحببة وقالت: “غزال”، مارال الزميلة الدراسية والصديقة والأخت العزيزة، قتلها رجل مجنون هي وعمتها بسهم أطلقه من شرفة منزله، ليرقّيها الى “ملاك نائم للأبد”.
تعرفت على “مارال” بداية التسعينات عن طريق شقيقتها طيبة الروح والقلب، الأخت “ماركو”، التي كنت وإياها في مرحلة دراسية واحدة، كانت “مارال” تدرس التصميم، وهي متقدمة عني بمرحلة واحدة، لقد طلبت مني
ماركو” تصوير الحفل السنوي الذي تقيمه فرقة الفنون الشعبية الأرمنية في الكنيسة سنويا، هل قلت الكنيسة، لا أدري، ربما في مكان آخر، يا الله، الكثير من التفاصيل تغيب في غمامة الوجع!
أخذت كامرتي ووقفت أمام المسرح ورأيت عرضا فنيا عالميا حقا، الكورالات السماوية تنشد بصوت قادم من الملكوت، ألحانا تدغدغ الروح والقلب، وفراشات يستعرضن الثياب الأرمنية الأنيقة، وراقصون وراقصات، يقدمون لوحات تعبيرية مدهشة، كانت “مارال” تشارك في إحدى هذه الفعاليات، ربما عارضة أزياء أو مغنية، لا أتذكر، كانت أجواء لا تراها إلا في مسرح “البولشوي” الروسي، حيث الإبهار في التنظيم والابتكار والجمال في أعلى مستوياته، كانت كامرتي تلتهم الصور الملونة الجميلة، وتحتار أين تضع زجاجة عدستها، فكل ما حولها يغري بالتقاط آلاف الصوّر للقطة نفسها.
انتهى العرض، وُزعت وردة حمراء لكل مشارك في الحفل، ونلت نصيبي من أريجها، كما منحت وردة حمراء لـــ “كارلو آفو” وهو مدرب الفرقة الشعبية، وكان والده، المرحوم “آفو” من أشهر مصوري الفوتوغراف في تصوير البورتريت في شارع الرشيد، ومعروف عن الأرمن، احترافهم الدقيق لمهنة تصوير البورتريت، بما يملكونه من أسرار في مواد التحميض، منهم العالمي ومصور العظماء كما يطلق عليه “يوسف كورش” أستاذ الفنان العراقي الكبير، “جان” صاحب استوديو بابل في بغداد، و”آكوب” في بيروت والكثير من الأسماء المهمة.
أصبحت “مارال” صديقة عزيزة، أذكر أن “مارغو” دعتني الى بيتهم في شقق الصالحية لتناول الغداء مع العائلة، وتعرفت على والدها ووالدتها، وكانت عائلة صغيرة سعيدة، تحلم كما كنّا نحلم، بعراق مسالم وأنيق، وشاهد أين انتهى حالنا؟
بعد سنيتن ربما، تخرجنا فابتلعنا الجيش بالخدمة الإلزامية ثم سنوات الحصار الحارقة، تفرق كل الأصدقاء، وما عدنا نعرف أخبارهم إلا بعد ثورة الأنترنت، ليكون خبر مقتل مارال “Maral Dermovsesian” عن اثنين وخمسين عاما، أحد هذه الأخبار التي قرأتها اليوم بالصدفة، حيث قتلت في السابع عشر من أيلول، هي وعمتها الطيبة Zonund Kardanakyan زونوند كارداناكيان عن سبعين عاما، في مدينة ألميلو الهولندية.
القصة حتى الآن غير واضحة المعالم، لا أحد يعرف دوافع القاتل وراء اختيار هاتين الضحيتن وجرح ثالث، لقد ظهر في مقطع مصور، وهو في شرفة منزله عاري الصدر ويرتدي شورت أبيض، ويطلق سهما على قوات البوليس التي حاصرت المبنى الذي يسكنه، وقد تم إلقاء القبض عليه، هذا جيد، لكني أخشى أن يكون “مريضا نفسيا” لا “عنصريا” بغيضا ويطلق سراحه لدواع مرضية وإنسانية، مللنا من هذه الفبركات.
قضيت نهاري حزينا، أقلب أوراق ذاكرتي التي قطّعتها الحروب والهموم اليومية، أتذكر تلك الفراشة التي كانت تملأ الدنيا فرحا في حدائق الكلية، وإبداعا على المسرح مع فرقة الفنون الشعبية الأرمنية، كيف آلت الى هذه الفجيعة؟ سألت نفسي” هل سيأتي يوم ما، يصوّب علينا مجنونا من نوع ما، سهام حقده، ويطلقها علينا ذات صدفة، ودون أن ندري، نمرق من هذه الحياة مروق السهم في أجسادنا، ونصبح خبرا في مواقع الأنترنت؟
هل علينا -كعراقيين- الهروب من الموت المجاني في العراق الى الموت “الغريب” في ديار “غريبة”؟
وأسأل، ما حال أهل “مارال” وأبنيها، وصديقاتها، وأحبائها؟
لم تكن “مارال” إلا عابرة سبيل هذه الحياة، برقة وعذوبة، وأتذكرها جيدا، صورتها لا تغيب عني، تلك التي تدور في حدائق الكلية، كأنها قوس قزح طفولي، ينثر الفرح حوله، كم كانت تحب الحياة والناس، وكم كانت مشرقة بابتسامتها الطيبة؟
أرقدي بسلام “مارال” فما عادت الحياة تليق بنا، نحن أبناء المحبة والسلام.
حامد المالكي