محمد السيد محسن
في التاسع من عام 1994 اجريت مقابلة مع الشاعر مظفر النواب لصالح مجلة “النافذة” التي كنت احد افراد اسرة تحريرها, كانت هذه المجلة الثقافية تصدر من نيقوسيا ويديرهاالكاتب عبد الباقي شنان من دمشق.
وكان سؤالي الاول لمظفر عن بعض الالفاظ في قصيدته التي يعتبرها البعض “بذيئة” على الرغم من دفاعه عن نفسه في احدى الامسيات وكانت في الجزائر العاصمة حين قال:
“اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية .. بعضكم سيقول بذيئة لا بأس .. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه” … كانت تلك المقدمة ملهمتي في استفتاح المقابلةمع النواب.
قال لي وقتها ان الشعر هو وسيلة تعبير يستخدمها الشاعر عبر بناء قصيدته , وانا اجداحيانا ان التعبير ببعض الالفاظ افضل من غيرها خصوصا وانا انشد قصائدي اكثر ممااكتبها , المستمعون لقصيدتي اكثر من قرائها.
قلت حينها : ولكنك تشبع الشاعرية وتجيع الشعرية.
قال لي ان قصيدته تبدأ مثل عزف العود , حيث يبدأ العازف بعملية دوزان العود , ثم يبدأبالاستهلال الموسيقي الى ان يصل الى مرحلة الهيام , حينها سيتم التفاعل معه.
كتابة القصيدة – والكلام لمظفر النواب – عندي تشبه الى حد كبير عملية “الدوزان” ابدأباستلال التاريخ , واعيش العرفان اولا ثم ابدأ بثيمة القصيدة , حينها اصل الى مرحلةالتماهي مع القصد من القصيدة.
وبعد سنتين من هذه المقابلة بدأت استذكر مع النواب تلك المقابلة حين كتب قصيدة“المساورة امام الباب الثاني” وقد عشت كتابة هذه القصيدة معه بيتا بيتا .. ومقطعا بعداخر , وكان قبلها يحمل بيده ديوان مالك بن الريب ويقرأ لي قصيدة ابن الريب التي يرثينفسه فيها , حيث يكرر ابن الريب لفظ “الغضى” .. 6 مرات في اول ثلاثة ابيات منالقصيدة حيث يقول:
ألا ليت شعري هل ابيتن ليلة
بوادي “الغضى” ازجي القلاص النواجيا
فليت “الغضى” لم يقطع الركب عرضه
وليت “الغضى” ماشا الركاب لياليا
لقد كان في أهل “الغضى” لو دنا “الغضى”
مزارا ولكن “الغضى” ليس دانيا
حينها استذكرت القصيدة واجواءها , وتشابه تلك الاجواء مع استهلال النواب لقصيدة“المساورة امام الباب الثاني” حيث يقول:
في طريق الليل
ضاع الحادث الثاني
وضاعت زهرة الصبار
لا تسل عني لماذا جنتي في النار
جنتي في النار
فالهوى اسرار
والذي يغضي على جمر الغضى اسرار
—-
الى ان يصل الى :
قد شغلنا ليلة بالكأس والاخرى بأخت الكأس
والكاسات ان صح الذي يسقيك اياها لها انساب
كلنا قد تاب يوما
ثم الفى نفسه
قد تاب عما تاب.
—
قال لي مظفر : ان مالك بن الريب كان ملهمي في هذه القصيدة كنت احسه يحاول انيدوزن القصيدة كما يدوزن العازف عوده .. بدات بالدوزان .. حتى وصلت الى كنهالقصيدة .
ثم التفت لي وبضحكة فيها شيء من المشاكسة فقال :
التفاتتك رائعة .. لانني اذا نضب لدي الشعر الجأ الى ديوان المتنبي او اي شاعر احسهقريبا لي في تلك المرحلة “الازمة” .. نعم أزمة .. لأن كتابة القصيدة عبارة عن ازمة خلقيجب ان يصل الشاعر فيها الى مستوى التماهي مع القصيدة ثم يجد انه اكمل وليداجديدا له.
من نافلة القول اشرح ما ذكرته من لفظي الشعرية والشاعرية , حيث ان الشاعرية هيمجموعة العوامل التي يتشكل منها النص الشعري وتتضمن القاموس اللغوي والشعريفي مخيلة الشاعر , وهي تمر بمراحل النمو والتطور , بيد ان الشعرية هي مرحلة نضجالقصيدة او ما يسمى عند العرب القدامى “بيت القصيد” حيث يكمن هذا البيت فينهايات القصيدة دائما بعد ان يصل الشاعر الى حالة التماهي مع موضوع القصيدة.
لقد رثى مصطفى جمال الدين باسل نجل الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد فقال فيمطلع قصيدته :
أعرني بيانا فالردى أخرس الفما
ونادى جليل الدمع ان يتكلما
وحين صافح الرئيس الاسد بعد انتهائه من القاء القصيدة قال له الاسد : لاول مرة ارىبيت القصيد هو اول بيت في قصيدة شاعر.