من بديهيات تأسيس وقيام أي دولة أن
تكون لهذه الدولة رسالة تسبق التشكيل أو
تلحق التشكيل ) بعاً مع اختاف توجه الدولة
حسب وضعيتها من توقيتات تبّني الرسالة(
، وتكون رسالة الدولة واضحة وتعمل وفقها
وتتناغم جميع او غالبية سلوكيات ومجريات
الدولة مع تلك الرسالة ، حيث أن رسالة
الدولة تتضمن الخطوط العريضة والاهداف
المرجوة من تأسيس او قيادة الدولة وسبب
تأسيسها واختلافها عن بقية الدول سواء
من الدول المحيطة أو الدول الأخرى.
إن فلسفة بناء وتشكيل اي مجموعة مجتمعية
تكون في لبنتها الاولى رسالتها والتي هي
تبدء بأسباب التشكيل مروراً بالتجليس على
جغرافية معينة، انتهاءً بتعريف الاخرين
برسالة تشكيل المجموعة.
ما هي الرسالة ؟
تختلف رسالة كل دولة باختاف مكونات
تشكيل الدولة وكذلك جغرافية وجيوبولتيك
الدولة ويعد العامل البشري أهم محتوى
لإنتاج الرسالة.
على سبيل المثال ) دولة المدينة ( التي
نشاءت في المدينة المنورة كانت رسالتها
نشر الدين الاسامي الحنيف ، لتستمر هذه
الرسالة في بقية الدول الاسامية التي
نشاءت على طول خط التاريخ وفي مختلف
الجغرافية وصولً الى الحرب العالمية الاولى
)من الوارد جداً أن الرسالة تكون غطاء
لاهداف اخرى ولكنها في نهاية المطاف
تعتبر الركن الاساس لبناء الدولة ومظهرها
الخارجي(.
لنأخذ مثال اخر من العصر الحديث، فدولة
مثل مصر رسالتها واضحة فهي تُعَرف
نفسها بمركز المحور العربي ومنبع صياغات
القرارات العربية وتعمل وفق المنظور
حول هذه الرسالة دولياً لتاخذ مصر دورها
الريادي اقليمياً وعلى مستوى العالم ولتكون
مصر احدى الدول ذات القرارات السيادية في
المنطقة،ومثال اخر تركيا والتي تنبع رسالتها
بالهوية القومية في اساسها لتتحور وتتمحور
حاليا برسالة )اسامية تكنولوجية( فتركيا
الان تحاول ان تكون لها نفس رسالة الدولة
العثمانية )ذات المضمون الديني( لكن
بمنظور حديث ومدمج بتعريف تركيا كدولة
حديثة ذات انعكاسية تكنولوجية ومنتجين
بذلك دولة ذات رسائل متعددة الطبقات
والاستدلالات مع بقاء الجوهر الخاص
لرسالتها كدولة قومية.
رسالة اي دولة في مبدئها ليست سيئة لكن
قد تصاب الرسائل بعدة عاهات وتعقيدات
وقد تكون في جنباتها مجموعة افكار
وتنظيرات ونظريات غير عملية مما تصيب
الدولة بفقدان التوازن سياسياً مع ضمور
دورها الدولي وتغير المواقف الحكومية
داخلياً وخارجياً وقد تصطدم الحكومة لتلك
الدولة بالمحتوى النظري للرسالة وعدم
امكانية تطبيقها على الارض بسبب تضادها
مع واقع الحال مما تكون الحكومة امام
احتمالين لا ثالث لها وهي:
اولاً : تغيير مضمون رسالة الدولة.
ثانياً :تغيير واقع الحال.
وحيث ان تغيير مضمون الرسالة تعني
تغيير بنية الدولة وهذا شبه مستحيل لما
له من تداعيات بنيوية في الدولة وكما ان
تغيير واقع الحال يكون مستحيلً ، بالتالي
تقبع الحكومة لمثل هكذا دولة في صراع
وهواجس وجدليات بيزنطية لا طائل منها
غير اضاعة الوقت واستثماره في القفز الى
الامام، )بغض النظر عن ماهية تلك الرسالة
وحيث اننا لسنا بصدد تقييمها ولكننا
بصدد حتمية ان تكون للدولة رسالة(.
ماذا عن العراق ؟
العراق في التاريخ المعاصر كان يمتلك
رسالة وخاصة ابان حكم نظام البعث
فقد تمركزت رسالة الدولة العراقية في
ذلك الحين بالرسالة القومية والمد العربي
وبذلك كان النظام السابق يعمل على
الاسقاطات السياسية لكل المواضيع ضمن
المنحنى القومي والعروبي. ويوم بعد اخر
تعمقت هذه الرسالة لتتحول الى سلوك
راديكالي متطرف قاسي ضد مواطنيه في
الداخل وضد اي طرف خارجي ايضاً، فقد
وصل تطبيق هذه الرسالة الى ادق تفاصيل
الدولة فكان مثاً الزائر الى العراق يقدم
له في المطار التمر واللبن ضمن الإشارات
الدالة على عروبة الرسالة العراقية.
بعد تغيير النظام في 2003 اختلفت الصورة
فالدولة العراقية كانت في تعامل مباشر
مع قوى عسكرية دولية ولديها معسكرات
في الباد بالتالي اثر هذا الموضوع كلياً
في عدم وضوح رسالة العراق الجديد
والذي بكل الاحوال لم تكن لتكون رسالة
عروبية او قومية وذلك لاعتبارات دستورية
والتعددية المكوناتية للباد.
بعد 2010 ومع خروج القوات الدولية كانت
هناك محاولات لانتاج رسالة للعراق من خلال
استقطاب واستضافة الاحداث والمناسبات
الدولية والاقليمية كمؤتمر القمة العربية
الذي عقد في بغداد في 2012 وكذلك الكثير
من الفعاليات الدولية الاخرى ، الا ان الدولة
العراقية تعثرت في اصدار رسالتها مرة اخرى
حيث أُشغلت بنوع اخر من الاحداث بدءً بما
سمي بالربيع العربي )في دول جوار العراق
والدول الاقليمية(، وصولا الى ارهاب من
نوع اخر والتي تمثلت بداعش ) والتي كانت
تمتلك رسالة واضحة بأليات متطرفة توغل
في القتل والارهاب مما ساعد في تشكيل
جبهة دولية بالضد منها حيث استشعرت
الدول بخطورة داعش من خال رسالتها
وبأنها اذا ما سنحت لها المجال فسوف
تحول العالم ككل الى صراع دامي (.
وانشغلت الدولة في تحرير اجزاء كبيرة من
العراق من وطئة داعش ومحاربتها منذ
2014 الى 2017 لحين انتهاء التحرير والقضاء
عمليا على داعش.
ولتأتي بعد ذلك انتخابات 2018 وتحركت
الدولة ايضا لان تكون لها رسالة وسطية في
المنطقة ، لكن مع وجود حاجات مجتمعية
ملحة ادت الى تظاهرات مطلبية من جهة
ومن جهة اخرى دخلت الدولة من حيث
لاتعلم الى آتون صراع دولي من نوع اخر
والتي اتت ايضا بالضد من ظهور رسالة
الباد الى الوقت الحالي.
وهنا يجب عطف النظر على مسألة مهمة
وهي ان مع كل تشكيل حكومي تختلف
ملامح الدولة من خال المنهاج الحكومي
) المنهاج الوزاري ( مما يساهم في فقدان
اكثر للرسالة والتي تنبغي ان تكون ثابتة
بثبات الدولة مع تغير الحكومات.
ان التغيير الحكومي تخضع الى التعددية
والى متغيرات سياسية مما يعني تغيير
وجهة نظر الدولة مع تغير الحكومات وهذا
يؤثر على اضمحال الرسالة حيث لا بد
من ثبات الرسالة في اولوياتها مع تغير
الحكومات ) من الممكن ان يكون هناك
اختاف في التفاصيل لما هو بصالح الرسالة
و ليس العكس(.
بالتالي فالباد الى الان ليست لها رسالة
واضحة كدولة ومتبنياتها ) والتي تحدثنا عنها
في مقال سابق تحت عنوان « التحليل العمري
للمتبنيات الفكرية » ( ، ونجد لابد من الذكر
بان اقليم كردستان قد يكون الجزء الوحيد
من الباد الذي لديه رسالة فيه شيء من
الوضوح باتجاه المجتمع الدولي من حيث
الميل والالتزام .
ما هو الحل بالنسبة للعراق ؟
اولى الخطوات يجب ان يتم الاتفاق على
رسالة موحدة للباد فمن غير المعقول ان
تكون الدولة خالية من رسالتها كما وان
وجود رسائل متعددة في نفس الوقت لن
تحقق الهدف المرجو منها بالتالي يحتم على
العراق ان تكون له رسالة سليمة موحدة،
قد تكون هذه الرسالة نابعة من العمق
الحضاري لوادي الرافدين ، او ان تكون رسالة
نابعة من العمق الديني ، او ان تكون رسالة
تعكس تعددية الباد، او رسالة تعكس
النظام المجتمعي للباد ، او رسالة صناعية
، او اي رسالة اخرى ويكفي تصفح ديباجة
الدستور العراقي للخروج برسالة واضحة
للباد.
الخطوة الاخرى توجب على الدولة
والقائمين على الامر طرح رسالة الدولة
بكل وضوح داخليا وخارجيا وعدم التعامل
باستحياء حول رسالتها وطرح هذه الرسالة
والاشارة اليها في كل المحافل الدولية مما
يساهم فيما نسميه ب ) نحت المصطلح
( والذي بمرور الوقت سوف يكون تعريف
العراق من خال رسالته.
الدول والرسائل
(Visited 7 times, 1 visits today)