مدن تحملنا ومدن نحملها

مدن تحملنا ومدن نحملها

كم غريبون نحن عن هذه المدينة وكم تشعر هي بغرابتنا عنها..!
وحدّنا الشعور وصرنا نشبه بعضنا حد الاستنساخ
عندما غادرت وطني كنت أخف من حقيبة.. و أصغر حجما منها ..
عبرت وجوه غربةٍ معبدةً لي .. رحت بخفة أقص الحدود كشريط ظفائري..
عندما كبرت صرت أثقل حملا وأكبر هما من حقيبة سفر
وحين حان وقت غربة أخرى أمسكت أمي بيدي وقالت
“فلتكن الغربة حقيبة تحملكِ ولا تحمليها”
حقيبة كبيرة هي ..
ووجوهنا ملابس ..ألوان وأشكال
نتكدس كي تكفينا ..
نخنق بعضنا بعضا كي تحيا السعة
نتكور ونتجعد ونتقزم
نلتهم التغيير بشراهة ونقتات على الصبر
علنا نتقلص أو أن الحقيبة تتوسع
تمر الأيام .. ولا نتقلص
ولا تتوسع الأخرى
شيئا فشيئا وبإدارك أخرس
تتسلل الغربة إلى دواخلنا
لعبتها اختراق الحدود والقيود
تعرف جيدا كيف ترسم غربتها على هيئة وطن
تعلمنا الحرية في أنفاق القطارات وبين تبغ السجائر
على أرصفة السكارى وعلى ” صُحيفات” محلية
تبيعها لنا مع القهوة التي لابد أن تبرد مع الزحام
وتصدرها لنا مع المارة الذين جاؤوا من مكان لم تعرفه أمكنتنا يوما
هكذا نحمل الغربة ..
فتتسع الحقيبة وتضيق صدورنا
يخف حملها ويثقل قلوبنا حجر البشر والعمر
تكبر مدينة الغربة داخلنا
يتوافد المستوطنون .. كلمات وأفكار وصلوات
يتكاثرون .. يتظاهرون علينا
ينقلبون ضدنا
يعلموننا أن نتحول إلى بكتريا .. وحيدةٌ خليتنا
نتكور على الأهداف والطموحات لنتكاثر
يقطرون في سجون التعذيب قطرات الغد لتتكرر على مسامعنا ويرهقنا المستقبل ومايحمله
يلقنوننا كأئمة دين إننا لا نساوي شيئا سوى أحكام من حولنا
فنجلد أنفسنا مائة جلدة وأكثر وما نحن بزانين
و في مدينتا البسيطة
صباحها فيروز ومساؤها أم كلثوم
خبزة تشبعنا وقهوة تدغدغ أقلامنا الأدبية
وفي مقاهي شعبية يتحدث جمال عبد الناصر والعندليب الأسمر ونجيب محفوظ في آن واحد
ننام هناك إما في حضن نجماتنا أو أمهاتنا
نفترش أسطح منازلنا ونقترب من الله أكثر
ندمن قصصا من الأبيض والأسود ولا نمل الرمادية
ولا نطلب من ألوان الحياة أكثر
نأكل جيدا وندرس كثيرا ونلعب أكثر ونحب ونتكاثر ونحتفل ونتألم وقتا أطول
رغم ذلك لا تنهي الأربع وعشرون ساعة
هكذا كانت مدائن تحملنا .. وها هي مدن نحملها

(Visited 5 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *