انتخابات ضد الشعب

محمد الكلابي

ليس في الحضور فضيلة مطلقة، ولا في الغياب خيانة مفترضة. ما يبدو مشاركة قد يكون خضوعاً مستتراً، وما يبدو انسحاباً قد يكون أصدق أشكال الرفض. حين تُعاد اللعبة بقواعدها نفسها، يتحول الصندوق الانتخابي إلى مرآة عمياء تعكس ما فُرض سلفاً. المواطن يُستدعى لا ليقرّر، بل ليمنح شرعية لمشهدٍ معد مسبقاً. وهنا، تنفجر المقاطعة كفعل سياسي ناقد، لا تُقاس بعددها، بل بجرأة الفكرة وقدرتها على فضح البنية من خارجها.

في الأنظمة التي تُعيد إنتاج ذاتها عبر طقوس انتخابية مكرورة، يُرفع شعار “المشاركة مسؤولية” لتحصين اللعبة من النقد، بينما تصبح المشاركة الشكلية تزكية ضمنية لنظام لا يؤمن بالتغيير. حين يُختزل الفعل السياسي في الحضور الرمزي، يغدو الامتناع الواعي أصدق من تصويت مشروط. لا تكمن المسؤولية في الانخراط، بل في تفكيك اللعبة حين تُغلق نوافذ التحول.

المقاطعة هنا ليست عزوفاً، بل احتجاجاً أخلاقياً. كما تقول حنّة آرنت: “حين يفقد النظام أفقه الأخلاقي، تصبح المقاطعة الإمكانية الوحيدة.” هي لا تنسحب من السياسة، بل ترفض أن تكون جزءاً من تمثيلها الزائف. لا ترفض النتائج، بل تُسائل الشروط التي تنتجها. هي اعتراض على اللغة والنظام، وعلى منطق الشرعية المفروضة لا المكتسبة.

لذا، فإن الغياب الواعي ليس خواء، بل كشف لفراغٍ تُخفيه السلطة خلف لغة التمثيل. وحين يتحول الامتناع من موقف سلبي إلى عصيان رمزي، تتولد إمكانيات سياسية جديدة، تعيد تعريف الفعل من حيث المبدأ لا الشكل.

ولعل ما فعله السيد مقتدى الصدر يُجسّد هذا التحول بأوضح صوره.

لم يكن مجرد انسحاب من المنافسة، بل تفكيكاً لقواعدها. لم ينسحب هروباً، بل فضحاً لمنظومة تمثيل جوفاء. مارس سلطة عكسية: سلطة تُنتج الأثر بالغياب، لا بالفعل. كما في “الفراغ الفعال” عند لاكان، يصبح الغياب أكثر حضوراً من الامتلاء.

لقد كشف انسحابه عن انتخابات تُمارَس كطقس لإعادة إنتاج الشرعية لا لتغييرها. وهنا تكمن المفارقة: حين ينسحب مركز اللعبة، يُربك منطقها كله. وهذا ما يجعل المقاطعة فعلا سياسياً يُعرّي البنية لا نتائجها.

وهذا هو الأهم: يفتح هذا الانسحاب سؤالاً وجودياً على مستقبل السياسة في العراق: ماذا لو تحول الانسحاب إلى «عدوى جماهيرية»؟ ماذا لو بدأ المواطن يرى نفسه ممثلاً حين يغيب، لا حين يصوت؟ هل يمكن أن يُنتج الغيابُ زعيماً جديداً، لا بتعبئة الشارع، بل بتعبئة الفراغ؟

هنا لا تعود المقاطعة مجرد رد فعل، بل تتحوّل إلى مشروع نقيضي يُعيد بناء الفعل السياسي من الجذر، ويقلب معادلة الشرعية: من يُشارك لمن يمتنع، من الحضور إلى الغياب، من الكمّ إلى الوعي.

وحين تتحوّل المقاطعة إلى وعي جماعي، لا تبقى مجرد موقف اعتراضي، بل تصبح مرآة مكسورة تعكس هشاشة السلطة ذاتها، وتدفع بالسؤال إلى نقطة اللاعودة.

في هذه اللحظة، لا يظهر فراغ، بل تنكشف الحقيقة التي لطالما أخفاها الحضور: أن الفراغ كان يسكن قلب النظام منذ البداية. لا يعود الصندوق أداة تمثيل، بل يصبح وثيقة اتهام مرفوعة في وجه سلطة لم تجرؤ يوماً على مواجهة نفسها إلا بعد أن هجرتها الجماهير. العزوف لا يعني التراجع عن السياسة، بل فضح آليّاتها، وكشف أن الشكل لم يعد يملك مضموناً، وأن القواعد صارت بلا قيمة حتى كخدعة.

الخطر لا يكمن في انهيار الشرعية، بل في انكشاف أنها لم تكن موجودة أصلاً، بل انتُزعت قسراً تحت اسم المشاركة.

وهنا يظهر التحول الأخطر: شعب لا يطالب ببديل، بل ينسف السؤال من جذره. لا يعارض الموجود، بل يجرّده من وهم التمثيل.

في تلك اللحظة، تنهار السياسة بوصفها إدارة لما هو ممكن، وتُفتح بوصفها سؤالا عما يجب أن يكون: من قرر أن هذه السلطة ضرورة؟ من منحها حق الوجود؟ ولماذا قبلنا ذلك؟

ليس ما يسقط هو النظام… بل الوهم الذي جعلك تظن يوماً أنك جزء منه.

 


مشاركة المقال :