صاحب خوام
من مقعده بجوار النافذة في عربة الكوستر كان ينظر اليهن بشراهة وهو يشعل سيجارته ويستنشق منها نفساً أتى على ثلثها مرة واحدة، فتيات يرتدين الجينز وقمصان ملونة تخفق مع شعورهن بتيار نسمات الخريف الباردة، معهن مجموعة شبّان كانوا عائدين جميعاً من سفرة جامعية ونزلوا كتلة واحدة في باب الجامعة يمزحون ويقهقهون، رغم ان الغروب أطبق على الشارع الاّ انه تفحصهن جيداً بعينين شبقتين، كان جنديا عائداً من الجبهة بإجازته الدورية، بدلته العسكرية المرزومة على بطنه بالنطاق ذو الجلد القاسي مشبّعةٌ بخليطٌ من رائحة البارود والعرق والغبار، تمتم محاكياً نفسه بغضب وعينيه لم تفارقهن ( هم يلعبون هنا، ونحن نموت هناك ) .. نزلتُ من الكوستر كان صديقاي ينتظراني عند باب الجامعة سنقوم بجولة في السعدون كعادتنا قبل التخرج ولكن هذه المرة لاوقت لفلم السينما الذي كان من طقوسنا الإلزامية وتناول لفة الهمبورغر في المطعم الصغير المجاور لسينما سمير اميس لابد ان انام هذه الليلة مبكّراً فلدي موعد غداً في مستشفى الرشيد العسكري لإجراء فحص النظر الذي آمل ان أخرُج منه بشهادة (غير مسلح) والتي هي أثمن من شهادة تخرجي في ذلك اليوم ففيها نسبة حماية كبيرة من الوصول الى جبهة الموت التي بلغ طولها الف ومائتي كيلومتر، وعدتهم بتعويض ماينقص من نزهة الليلة برحلة نصف يوم الى الحبانية غداً ..
في السعدون احتجت الى دخول الحمام، لاأعلم ربما مثانتي صغيرة، فأنا دائماً احتاج الى الحمّام والمشكلة حينما اكون خارجاً للتنزه فأمكنة قضاء الحاجة في الأماكن العامة نادرة، كان صديقي عباس يمزح معي دائما في جولاتنا (ها انحصرت لو بعدك؟) ، في شارع السعدون كِثرةُ عدد البارات حلّت المشكلة، كان ذلك بمشورة صديقي ماجد الذي تقدم أمامي حين شاهد تهيّبي وترددي من دخول هذا المكان، بإمكانك ان تدخل وتخرج لاتنظر الى احد ولا يسألك او يعرفك احد، المكان أحمر كمختبر تحميض الافلام، قناني المشروبات تزدحم وتصطفق ببعضها على مناضد الروّاد، لايرفعون الفارغة منها بل تبقى على المنضدة، وإذا دخلت في وقت متأخر فلابد ان تشاهد احدهم ينتحي زاوية ويطوّح(ربّيتك زغيرون حسن، ليش انكرتني)بصوت مرتفع يصك أذنيك، في الثمانينات ورغم قسوة الحرب بقي شارع السعدون كما في السبعينات لم يفقد رونقه، بقي ليله مزدحم، ابواب السينمات فوقها الاعلانات المُلوّنة الكبيرة الجاذبة تعجّ بروّادها خصوصا دور التاسعة عوائل وأفراد، البارات، المطاعم، المقاهي، اكشاك الشاورما والبيبسي التي تنتشر على الرصيف، صالونات الحلاقة وعيادات الاطباء والصيدليات، حياة ليل نشطة لاعلاقة لها بجحيم جبهة الحرب، الأضواء وصخب العربات ثم الملاهي المكتظة ببنات الهوى والراقصاتُ مختلفةُ الجنسيات، التي يبدأ دوامها بعد العاشرة وينتهي بعد الثالثة فجراً حيث يستعد جامع الاورفلي الذي يبتدأ به الشارع وجامع ساحة الفردوس الذي ينتهي به يستعدّا ليرفعا أذان اليوم الجديد..
في المستشفى العسكري قبل ان أدخل غرفة الفحص حرصتُ أن أدخل الحمام، أشار لي احدهم أنه هناك داخل قواويش المرضى، دخلت القاووش قاعة طويلة جداً لايمكن تمييز تفاصيل الأشياء في نهايتها، على جانبيها صُفّت أسرّة حديدية بشكل عمودي على الجدران وتُرك الوسط فارغاً ليتشكل ممر بعرض متر ونصف تقريباً، وضعت بين الأسرة دواليب معدنية لوضع الدواء وحاجيات اخرى، سقف القاعة أعلى من الطبيعي ويبدوا ان جدرانها العالية قد طُليت عدة مرّات فتراكم الدهان الأصفر على بعضه مشكّلاً تموجات وانحناءات زادت من انطباع قِدَم المكان وطبعه الكئيب، قدّرتُ ان عمر هذه القاعات بجدرانها السميكة وشكل شبابيكها الممطوطة نحو الاعلى منذ عهد الإنكليز، التواليت في النهاية وعليّ ان اقطع القاعة بطولها كي اصل هناك، دخلت، اقتحمت بخطوات واثقة لم يخطر ببالي ماكان ينتظرني، لايوجد في كل القاعة سرير فارغ بل أُضيفت الى الأسّرة حمّالات نقل الجرحى واستُخدمت كأسرّة دُسّت في نهاية القاعة وفي فسحة وسطية، أغلب الحمّالات مدولبة وارتفاعها اعلى بكثير من ارتفاع السرير فكأنها مناضد عرض، منظرُها اكثر رعباً من الأسرّة، حيث استلقت عليها جثثٌ حيّة عارية تماماً فكأنها معرضُ شواهدُ موت، لاحراك فيها الا من النفس الذي لم اشاهده، شكل العورة مكشوفة ناتئة على الاجساد الصفراء الهامدة المستقيمة والملوية والمنكفئة يُصيبُ بالقرف والوجع ممزوجاً بغثيان، رعب الموت ينضحُ منها بأبشع صورة، ربما كانوا أمواتاً أو بعضهم، بقيّة الأسرة حملت أجساداً مقطوعة الاطراف أو ملونة ومشوهة ببقع الحروق على الوجوه والاجساد، كثيرٌ منها نصفُ عارية، كل شي اصفر، موت ناضج، الجدران، الاجساد، حتى وجوه الاطباء، القاعة كلها اشبه بقالب موت أغبر أصفر، تجويف يكتنف داخله كل ماليس له صلة بروح الحياة، الرعب استفزّ حواسي وحماني من حالة إغماء كانت وشيكة، وصلت، مرحاض ومغسلة وادوات تنظيف ودماء، عدتُ أدراجي بسرعة، ماعدتُ أشعُر بشيء او بحاجة الى شيء، قطعت القاعة إياباً وجهي وعيناي الى الارض، في المنتصف لاقتني كتلة الاطباء بصداريهم البيضاء قادمين بوجهي تتقدمهم طبيبة بعمر الكهولة تتدلى من رقبتها كقلادة سماعة الفحص، اقتربت منهم كانوا يتناقشون بالإنكليزية، انحرفوا عني نحو احد الأجساد الممدودة يفحصونها فأكملت طريقي الى خارج القاعة حيث هواء الحياة ..
في الحبانية اوقفنا سيارتنا في بارك السيارات المطل على البحيرة الزرقاء كُنت ماأزال مصدوماً من حدث الصباح أيقضني من صدمتي صوت صديقي وهو يقول انظروا من هذا ؟ ابنُ الرئيس؟
كان يقف قريباً منا وحيداً بجنب سيارته الغريبة الفخمة، هذه اول مرة أراه، نظرتُ الى وجهه كان مرتوياً ممتلأً بالعافية، مسترخياً طرياً كأنه قد أفاق للتو من نوم طويل فتح صندوق سيارته واستخرج منه قنينتي بيرة أعطاهما لشاب وشابة صادف مرورهما قُربه، شكراه بشدة وامتنان، استعدت عبارة جندي الكوستر وبسبستْ بها شفتاي ( ونحنُ نموتُ هناك)