تمثلات المكان في اعمال الفنان علي النجار / حسن السوداني

تمثلات المكان في اعمال الفنان علي النجار / حسن السوداني


د . حسن السوداني

مقدمة: شغل المكان حيزا بحثيا في دراسات الفن التشكيلي المعاصر واصبح عنصرا هاما في تجارب الفنانين الذي يجنحون للمغامرة المدروسة معتمدين على خبرتهم ورغبتهم في التلاعب بمتن اللوحة التشكيلية بحثا عن مناطق تجريبية لم تطالها تجارب اخرى, ففي سنة 1918 عرض ماليفيتش لوحته “مربع أبيض على خلفية بيضاء” والتي جعلت من اللون الاحادي حيزا مكانيا واضحا في الاعمال التجريدية , وجوبهت بسلسلة من الادهاش في الاسلوب الجديد الذي اعتمده الا ان هذا التحول الظاهر في الاهتمام بالمكان في التشكيل المعاصر سبقته محاولات تجريبية كثيرة دفع بفنانين حداثيين إلى البحث عن فضائهم الخاص، وتمثلاتهم الذاتية للمكان. فسعى الوحشيون الى طرح وجهة نظرهم في هذا العالم من خلال تغيير ألوانه وكثافته، واجتهد الانطباعيون الى نزع االدقة من المكان ، وذهبوا الى التعبير عن انطباعاتهم بحرية عالية لتوزيع جغرافية المكان حسب ما يرونه هم .. واجتهد موني في توظيف الفضاء التصويري لخدمة الإحساس الضوئي.. وعمل بول غوغان على فكرة المساحة في المستويات البصرية المختلفة. ويغامر ماتيس في التقليل من تأثير العمق في اللوحة من أجل سطوة اللون وتستمر المحاولات التجريبية التي تعتمد المكان اساسا لها مع لوسيو فونتانان في تجاربه التي اطلق عليها بـ (مفاهيم الفضاء) باحداث خروقات في سطح اللوحة للبحث عن مكان مريح كما اسماه هو. بين عامي 1910 و1930 غيرت التكعيبية من مفهوم المكان في اللوحة التشكيلية الى مجرد اشكال هندسية ومع ظهر الاعمال الانشائية ( الانستليشن) اصبح المكان يتحرر من ثبوتيته الارضية الى مدايات الفضاء الواسع كما يتحرر من مفاهيمه التقليدية الى مناطق جديدة تحول كل الاشياء كمادة مكانية في مناطق التعبيرات الفنية.


المكان في اعمال الفنان علي النجار.
تجربة الفنان على النجار(1940) تعدى عمرها النصف قرن منذ بداياته في معهد الفنون الجميلة ببغداد وحتى حدود مغتربه السويدي الان تلك التجربة التي وصف جزء منها الناقد جبرا ابراهيم جبرا بالقول:(الفنان علي النجار متفرد بين الرسامين العراقيين بسبب فنطزته، التي تبدو ملهمته, فله رؤى تتداخل فيها الأشكال الإنسانية مع أشكال الطير والحيوان كجزء من رؤياه, وقد استطاع ان يجعل منها حلمه, حيث لا نجد ما يشبهه عند الفنانين العراقيين والعرب، أو في أي مكان آخر من العالم, وهذا التميز هو جزء من تجربته في الحياة على ما يبدو, وأنا اعرف ان في حياته مآس خاصة كثيرة استطاع ان يتخطاها فيما رسمه في الآونة الأخيرة. وقد استطاع أيضا ان يضيف لهذه الفنطزة عن طريق الخزف, فجسدها أشكالا غير متوقعة, ولكن تبقى راسخة في ذاكرتنا). ومن هنا لا يمكن اختصار كل تلك التجربة الطويلة والثرية ببضع سطور لدراسة ركن مهم من اعماله الفنية لذا ستقتصر هذه المقالة على تحليل المكان في واحدة من تجاربه الاخيرة التي عرضها في نهاية عام 2019 وحملت عنوان (Broken Zome) وتتمثل جزئياتها بعرض 55 لوحة بقياس30 X 40 لتشكل بمجموعها لوحة واحدة بمساحة 12 متر مربع .
تتناول هذه اللوحة يوميات انتفاضة الشباب العراقي في الخامس والعشرين من تشرين من نفس عام العرض وتجد تحت كل لوجة من تلك اللوحات الصغيرة تاريخا لليوم الذي رسمت فيه ولتشكل بمجموعها قصة تلك الانتفاضة الشبابية التي تركت بصمتها في تاريخ الانتفاضات العراقية المعاصرة ولقراءة المكان في هذه اللوحات فانه محسوم سلفا (واقعيا) الى ساحة التحرير في بغداد حيث جرت الاحداث فنرى الكثير من دلالات المكان وخليفته الشهيرة (بعضا من نصب الحرية لجواد سليم) الان ان تدقيقا في متن اللوحات وترك الانطباع السائد عن المكان فيها فانها ستحيلنا الى امكنة اخرى تماما , ربما من خلال ما يمتلكه الفنان علي النجار من فنتازيا تعبيرية تلك التي وصفها الفنان الراحل شاكر حسن ال سعيد بالقول: “ان تجربة علي النجار، تمثل الاتجاه الميتافيزيقي في الفن العراق” فان المكان سيتحول لديه الى عربة التوك توك المحلقة في الفضاء او تلك الارواح التي تهيم بين الدخان رافضة مغادرة مكان الحدث , القنابر الدخانية التي تحلق في فضاء اللوحة لتستقر في رؤوس الشباب الصغيرة او ذلك الجسر الفاصل بين ضفتي نهر دجلة حيث الواقعة بين من يقذف الموت وبين من يبث الحياة لمجتمع اكلت عمره الحروب والماسي, غير ان مفاجاة المكان في هذا العمل هي بتحويل جدار كامل بقياس 5 امتار عرضا واربعة امتار ارتفاعا الى مقبرة للشهداء حيث استغل اسفل الجدار بوضع صور للشهداء مع ايقاد شموع صغيرة ليحيل المكان (20 متر) من الفضاء الى مقبرة وقفت امامها جموع الزائرين بخشوع مصاحب للبكاء وقام بعض منهم بنثر الزهور امام (اضرحة الشهداء) بينما انشغل الاخر بقراءة الايات القرأنية وقام امراة بايقاد البخور ليمتلئ الجور بعطر زكي , هنا اجتمعت عوامل عديدة في التاثير المكاني, فحاسة الشم والبصر واللمس كان حاضرة كلها في هذا المشهد مما اثر على المشاهدين باظهار انفعلاتهم المختلفة دون اية قيود . هنا ايضا يمكننا ان نقيس مدى تاثيرات (صناعة) المكان او استثماره الى اقصى الحدود بما يوهم الاخرين بالحدث الحقيقي الذي عنون الفنان معرضه به, فلا يمكنك كزائر ان تمر على ضريح شهيد شاب بعمر الورد دون ان تنحني لتفحص تفاصيل ووجه دون ان تتردد في لعن قاتليه بما تملك من لغة اللعن! ولو عدنا الى مفهوم المكان لدى الفنان علي النجار فاننا هنا نقف امام تجربة متفردة في كسر رتابة المكان داخل اللوحة باضهار معالم محددة يمكن ان تحيلنا الى نوع من النوستالجيا الى نوع اخر تمام من خلال اخراج المكان الى الجو العام كله , بل الى تحويل ( الغاليري) الذي عرضت في الاعمال من مجرد مكان معتاد لعرض اللوحات الى مكان واقعي تتجسد فيه الاحداث وتتفاعل فيه المشاعر الى درجة البكاء او الغضب او اللعن او نثر الزهور او توزيع الحلوى ترحما على ارواح الشهداء , وهي كلها ردود انفعالية جاءت من تاثيرات المكان نفسه.
وهنا يمكننا ان نقتبس مقطعا مما كتبه القاص والروائي محمد خضير واصفا اشتغالات علي النجار الفنية بالقول:”يجرّب الفنان التظاهر مع جموع سائرة إلى مجهول مثله ومثل رسومه، وقد يكفيه هذا التماهي لسدّ الفجوات في وجدانه المجروح منذ إفاقته على غربته وعزلته الجليدية.والحقيقة إنها أكثر من إفاقة، وأكثر من انتقالة مكانية، يهمنا منها المكان الأخير. إذ حين أشرقت الشمس بضوء باهت على جدران الثلج والغابات المتجمدة في السويد” وهذه الاشارة المكانية لاقامة الفنان في السويد لم تمنعه من ان يكون حاضرا ذهنيا وروحا مع احداث بلده الام وهو يرى كيف يتوغل الظلم فيه وكيف تحطم امواج الفساد اخشاب سفينته التي عانت من السوس والحرق عبر تاريخ طويل من الالم.
ان تمثلات المكان لدى الفنان على النجار لا تتوقف على حدود اللوحة فقط بل تتعداه الى اسثمار اي مساحة ممكنة من قاعات العروض لتوظيفها بذكاء حاد الى ما يخدم اللوحة المعروضة مما يحيل العرض الى ملونة ضوئية وبصرية تتكامل فيها شروط الفرجة الواعية والمؤثرة ليصل الى نشر رسالته المعرفية باقوى انواع الايصال النفسي والذهني.

(Visited 12 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *