رواية إيرانية من تبريز

رواية إيرانية من تبريز

 

شاكر الانباري

الكاتب “مرتضى كربلايي لو” من مواليد تبريز 1977، وهو تبريزي من أتراك أذربيجان، كان عمره ست سنوات حين زرت صديقي “تحرير” القادم من خانقين هربا من الحرب، والمقيم عند عمه في تبريز. وعمه كان من مناصري ملا مصطفى البارزاني، وحين فشلت الثورة الكردية استقر عمه في تبريز نهاية السبعينيات. استقبلني صديقي في كراج تبريز بليلة باردة، وربما شاهدت مرتضى كربلايي لو يلعب لحظتها في واحد من أزقتها، أو يتراشق بالثلج مع أقرانه. وقد ظلت لمدينة تبريز في رأسي ظلال وذكريات شاحبة، لأنني قضيت فيها ثلاثة أيام فقط. لهذا السبب جذب نظري عنوان هذه الرواية التي تدور أحداثها في تبريز، وكنت أنا راغبا في رؤية تبريز البعيدة التي تجولت فيها قبل أربعين سنة، فماذا وجدت؟ أصداء وخيالات شاحبة، ثمة بيوت مضيئة المرمر، وشوارع ثلجية، وسحنات غريبة، ولغة لا أفهمها، تنتمي إلى عالم بعيد عن خبراتي في ذلك الوقت.
وكنت عادة ما أردد مع نفسي كلما ورد اسم تبريز هذه الأمثولة الشائعة: أصفهان نصف جهان أكر تبريز نباشد، وترجمتها مدينة اصفهان هي نصف العالم لولا وجود تبريز. رواية “جهة العربة” ذات نكهة غريبة، فضلا عن أنني لم أجد فيها تبريز القديمة. كذلك استغربت من وجود شخصيات مثقفة تبريزية غير تقليدية، في المسرح والرسم، وكتابة المقالات والتمثيل، والمقاتلين القدامى في الحرب العراقية الإيرانية يهربون من الوضوح، ومن الغاية والهدف من وجودهم. وجود روائي قائم على اللامعنى واللغة الزلقة السفسطائية. شخصيات تحاور نفسها أو تتحاور عن كل شيء، وتثير أسئلة عويصة لكن دون إجابات. الجميع يهرب من الإجابات.
كل ذلك يجري في بيئة ثلجية تكاد أن تحوّل بشرها إلى أشباح، وهم يسلكون طرقا ضيقة في الأسواق المسقوفة، وأزقة الأرمن، والطرقات الليلية، صوب هدف غير واضح. داوود وأخوه كاوة وزوجته روكسانا، الرجل المهيب الأعمى، قرة زرّين الرسام، سعيد مدرب المسرح، طبيب العيون الذي حول عيادته إلى عنوان للقاء الأصدقاء، ورقائيان بائع الكتب، والجندي الحارس في قصر الشاه، وقد تحول إلى حارس للثريات الفخمة، وأدوات الطعام الكرستالية، والفراغ الوجودي. كنيسة الأرمن تختفي أحيانا بفعل السحر. الكاتب الكبير يتجول في الشوارع مخفيا قنينة الكحول في جيبه الداخلي. وطبيب التجميل ينسب المقالات التي ينشرها إلى أنها مترجمة ليزيد من المكافأة. كل تلك الشخصيات تتحاور كما لو كانت على مسرح خيالي، بنكهة فلسفية تميل الى الفانتازيا وانفصال النخبة عن الواقع. فلا نعرف ما هي مدينة تبريز ومم يشكو سكانها، ولا نقع على بشرها العاديين المكتظة بهم الشوارع. تغيب السياسة والاحتجاجات، وهيمنة رجال الدين، وملفات كالأقليات والصراع القومي والفقر والحريات الشخصية.
ولا يحضر في تضاعيف الرواية دائما سوى الشادور، وهو اللباس الإسلامي المفروض بعد سقوط الشاه. لقد دأبت الشخصيات على إعادة قراءة الروايات الروسية مسرحيا، ومنها رواية الجريمة والعقاب لديستويفسكي، وإعداد الممثل لستانسلافسكي، ورواية دكتور جيفاغو لبوريس باسترناك، والحلم بدمج الهيئة البشرية بالحيوانات عن طريق رسم البورتريه، وهذا ما يقوم به الرسام قرة زرّين وكأنه يسخر من الكائن البشري. من كل ذلك هناك الحذر الشديد المعقّم في الحوارات: يتحاورون عن كيفية تمثيل مشهد قتل العجوز في رواية الجريمة والعقاب، وطبيعة الرسم، والحب، والعلاقة الزوجية، ومشروعية إقامة مسلخ للأبقار، وأهمية ارتداء معطف ثقيل في الشتاء، ومشروعية الحروب والبطولة دون التوصل إلى قناعات واضحة، وكأن الغرض من تلك الحوارات هو اللعب باللغة لا غير. لا يقتربون أبدا من مشاكل المجتمع الايراني الحقيقية، وهم بذلك يستعيدون مسرحية “في انتظار غودو” لبيكيت والعبث المصاحب لانتظاره، أو فيلم الأزمنة الحديثة لشارلي شابلن، حيث يقضي الفرد حياة كاملة في تثبيت برغي في آلة تدور بلا انقطاع، حتى يتحول هو ذاته إلى آلة بلا مشاعر.
حوارات أشباح غائبي المواقف الواضحة. شخصية الجندي الحارس في قصر للشاه في طهران، شخصية الأسير في العراق، أي ما أطلق عليه بالشخص المهيب وما زال يمتلك بندقية قنص حتى اليوم، وهي أصداء خافتة مثل جرس بعيد للحرب العراقية الايرانية وقد تركت ذكرياتها في المجتمع، وكأننا أمام حلم فانتازي بحياة أخرى عن طريق المسرح، والرسم، والضياع في أزقة البازار. وأغرب فصول الرواية وجود مقهى باسم مقهى الحمير، وهو مقهى سريّ يقع في أزقة البازار ولا يدخله إلا النخبة، وحيث يلتقي المثقفون المنفصلون عن واقع تبريز وايران عموما، ف”الحمرنة” هي السائدة في فضاء المقهى. وليس غريبا أن يضع مثقف، كاوة كاتب المقالات الجنونية، مخلاة مليئة بالتبن، يدس فمه فيها، ويتبختر وسط المقهى على وقع سخرية الجالسين وضحكهم. كل ذلك لا يفسر هذه الفانتازيا التبريزية إلا بمحاولة تلك النخبة بالهروب عن طريق الفن من واقع معروف يصعب تغييره، وتفضل السلطة أن تضع ذلك النمط من المثقفين المنفصلين عن واقعهم في مقهى سري للحمير. وجاءت الحوارات لتشير وتلغز، لكنها لا تحدد الفكرة، والسبب معروف، خوف من مواجهة قوة غاشمة. لقد بذل المترجم الأهوازي أحمد حيدري جهدا هائلا في لملمة تلك الحوارات الفلسفية بلغة عربية سلسة، ساهم فيها أيضا العراقي كريم راهي في التحرير كما يكتب المترجم في مقدمته.

(Visited 14 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *