The home في الشرقاط

The home في الشرقاط

في الشرقاط The home

كافي لازم
منذ فترة طويلة لم اخرج من العاصمة بغداد ولا من العراق رغم أن الاخبار لا تطاق بين كورونا و الحرائق واحتقان الانتخابات وسباقها المحموم ودرجة الحرارة القاسية . غير أن دعوة كريمة من الأخ والصديق والمخرج المتمكن غانم حميد لمرافقته برحلة إلى قضاء الشرقاط لعرض مسرحية (The home) هناك . جاءت هذه الدعوة متزامنة مع رحمة الطبيعة هذه الأيام وانحسار الأجواء الحارة ..
حين ما استكمل حضور كادر المسرحية في بناية المسرح الوطني عصرا انطلقت رحلتنا في طريق طويل مع توجس في حسابات وتساؤلات و مخيالات .
كيف تكون ظروف العرض في قضاء لم نراه سابقا وقد تحرر منذ زمن قريب من قوى الإرهاب. بالإضافة بأن اهله الكرام لم يروا عرضا مسرحيا اطلاقآ. كل هذا وذاك وحين حل الظلام الدامس والسيارة تلتهم الأرض التهامآ ولم نر سوى أضواء خافتة من قرى صغيرة في الافق البعيد ومع ازدياد توجسنا كنا نتبادل الكلام والنكات لتقليل المخاوف . وكان صوت الراحل (رياض احمد )حاضرا في مسجل السيارة . فضلا عن اصرارنا المتصاعد في خوض التجربة بدرجة أعلى كلما قطعنا شوطا من الكيلومترات. نعم فالبشارة أتيه لا ريب في سلامة الوصول اذ رأينا جمعا في الشارع العام المتجه إلى مدينة الموصل الحدباء وقبيل دخول قضاء الشرقاط. هذا الجمع الجميل مكون من شيوخ القضاء الأجلاء و النخب الخيرة كذلك شبابها الرائعين وكلهم توقا وفرحا في استقبالنا والتهنئه بسلامة الوصول وكأن هذا اليوم بمثابة عرس لهم .
حقيقة لا بد من التأكيد على أن عراب هذه المبادرة من ألفها إلى ياءها هو الابن البار للقضاء الدكتور ياسر تركي الرجل الهادئ المحب للثقافة والأدب والفن وبالاخص المسرح وهو حريص على أن يرى أبناء مدينته هذا الفن النبيل وقام بواجبه الكبير بأفضل الحالات مع أبناء عمومته وكأنه مؤسسة كاملة بحالها بل أكاد أن أقول بأنه افضل بكثير من بعض المؤسسات الفنية الخاملة والتي تستهلك من الدولة رواتب وأمتيازات .
أصطحبونا هؤلاء الرجال الافذاذ حين دخولنا إلى القضاء وكانت محطتنا الاولى في بيت الدكتور ياسر التركي العامر بأهله واذا بحشد كبير من العوائل الكريمة وشباب القضاء وهم فرحون بهذا اللقاء والحدث الكبير والغير مألوف لديهم حينها خاطب المخرج غانم حميد الجماهير الحاشدة وقال[ لقد ولت سنوات القحط والحرمان وسنرجع لكم بعمل شعبي وما هذا إلا بدايه لمشروع كبير ] أما ضيافة هذا البيت الكبير فتعجز الكلمات أن تصفها وهي بلا حدود .
توزع كادر العمل إلى بيوت الشيوخ الاكارم وكانت حصتنا نحن الكتاب والصحفيين مع بعض الفنانين في بيت الاستاذ الفاضل فهد عنتر الدوخي كان بيتا كبيرا يحتوي على عدة غرف مصممة على شكل (سويت) وعلى مرتفع يطل على نهر دجلة العظيم بمائه الصافي غير ملوث كما في العاصمة وحتى القمر كان صافيا في تلك المنطقة الرحبه استقبلنا الاستاذ فهد المحترم مع السيدة زوجته وعائلته الكريمه بكل حفاوة وترحيب.
صباحا في اليوم التالي حضرنا تمرين للعمل وكان المخرج القدير يعمل كأنه سيعرض لأول مرة بل كأنه سيعرض أمام لجنة تحكيم كبرى فقد بذل جهدا بالتفاصيل الدقيقة في توضيح حالات(الصراع) الذي هو أساس موضوع العمل إلى حد حساب الايمائه البسيطة ولم يهمش أي شئ في العمل وهو يشرح الحاله الفكرية والفلسفية في توضيح الفكر المسرحي . كما استطاع التكيف مع أرضية الخشبة المحدودة الفاقده لمستلزمات العرض التقليديه من كواليس وأمكنة خروج ودخول الممثلين وكان للأخوة الفنيين دورآ كبيرا في نصب أجهزة الانارة والصوت رغم امكانات القاعة المحدودة بل المعدومة في استقبال هكذا اعمال ..
أنه التحدي والإصرار في تقديم العمل بكل أمانة وجمال.
بعد هذا الجهد الكبير و (الضغط) على الممثلين مما انهكهم وانهك نفسه أيضا تأجل التمرين ليوما اخر رغم ان العرض مساءا في نفس اليوم .تجولنا عصرا في أسواق المدينة للتسوق بعض الحاجيات كان استقبالا مبهجا من شعب هذه المدينة الطيب والقسم الكبير من أصحاب المحلات لم يتقاض ثمن البضاعه بل أحدهم أعطانا هدايا من محله وهو فرحا بوجودنا. ولا ابالغ اذا اقول ان احد الاخوة الخياطين أصر أن يفصل (دشاديش) لجميع أعضاء الوفد وأقسم على ذلك وذهب بعضنا لمحله الانيق وأتم له ذلك احتراما له ولموقفه وحتى لا (يزعل) علينا .
حقيقة أبناء هذه المدينة يحق لهم العيش برفاهية ووداعة وسلام بعد تصديهم ومساعدتهم للقوات الامنية حين استباحت قوى الشر والظلام مدينتهم . لكن المؤسف لم يصلهم الاعمار المستحق من تبليط الشوارع خصوصا الفرعية منها وأبنية حكومية تليق بهذه المدينة الصامدة وبالأخص ضرورة وجود قاعة للمسرح ليمارس عليها شبابهم المتعطش الأدب والثقافة والفن.
الطريف بالأمر أن اليوم الاخير وبعد تزاحم الضيافة علينا والمنافسة بينهم اضطررنا أن نأكل ٤ وجبات في اليوم تلبية لطلباتهم واحتراما لمشاعرهم وهذه الوجبات تكاد تكون متزامنه مع بعضها وحين حانت ساعة الوداع كان منهم واضحا على محياه الحسره وألالم بل ادمعت عيون البعض منهم ..
عندما حانت ساعة العرض لم نتوقع هذه الكثافة من الجمهور كذلك العوائل المحترمه أضف إلى اناقتهم المتناهية الجمال . قد يظن البعض في حلم مبالغ به لكن الوقائع يعزز هذا الكلام والمدعوم بصور الفديو .أمتلأت القاعة عن بكرة أبيها وقسم من الجمهور افترش الأرض رغم ان لا القاعة صالحة بدرجة جيدة للعرض نتيجة للصدى الكبير ولا طبيعة المسرحية تتحمل الفوضى الحاصلة لأنها تحتاج إلى صمت كبير وأنصات مركز لما يعرض من افكار جريئة ومحسوبة الايقاع من قبل السيد المخرج ولكن تحملنا اكراما لهذا الجمهور المتشوق للعرض والمبتهج في الوقت نفسه وكان منسجما بطريقة مدهشة بما يعرض أمامه فهو متفاعل مع أي جملة تهز مشاعره ويصفق لها مع ان هناك جمهور اخر في أروقة وممرات القاعة يصفق أيضا ويعادل بما موجود في داخل القاعة واذا حسبنا هكذا كثافة فنحتاج إلى سبعة ايام عروض متكاملة .
وأعتقد أن هذا العرض اتاح ليس للمخرج فقط بالتغيير والابداع بل كذلك الممثلون وهاهي فنانة الشعب المقتدرة هناء محمد ذات الحضور الطاغي في أبهى تجليات الفكر الانساني وهي واعية تماما وبحرفية عالية كيف تخاطب المتلقين وكيف تقودنا في أداء مدهش نكاد أن نقفز من كراسينا ونصرخ معها كدعوة الداعي المستجير ليسمع صوتنا الذات الألهيه متى الخلاص؟..

أما الممثل المتفوق دائما محمد هاشم لقد فهم دوره فهما عميقا وهو يدرك مدى خطورة حواره الذي لا يجرئ الانسان أن يخاطب نفسه ولا حتى في السر بمطالبتة بحضور المخلص أكد بأنه سيحضر يوم يسود الظلم وانعدام العدالة في ألارض…أين أنت ألا تظهر؟ ألا يكفي هذا الظلم لكي تظهر؟ ألا يكفي هذا اليتم؟…ألا تكفي هذه الأرامل ألايكفي هذا الحطام حتى تظهر؟؟ أنها تساؤلات لم تظهر بهذا الشكل العلني الصريح .
تبقى الانطلاقة الجديدة للممثلة بيداء رشيد التي وضعت بصمتها في هذا العمل بشكل مؤثر وواضح كذلك الفهم العميق للدور وما يتطلب من عمل بعد أن تفجرت مخزوناتها الادائية كالمطر المتدفق واستطاعت ان تقنعنا بأنها نجمة قادمة بعد طول انتظار . أما الممثل الدكتور مظفر الطيب فقد تفوق حتى على ذاته في أدائه الرائع بعد انقطاع طويل اذ تقمص الشخصيات المتنوعة بكل جدارة المعلم .ويبقى الممثل الرائد محمود شنيشل علامة مضيئة في هذا العرض نتيجة الخبرة المتراكمة.
استطاع المخرج القدير أن ينجح بمهمته العسيرة في أثارت تساؤلات كبرى تدخل في باب المحضور لجمهور لم يشاهد مسرحا فضلا عن تعقيدات قاعة العرض الا أنه تمكن أن يوصل فكرة العمل بكل سلاسة كأن هذا الجمهور الجديد في قاعة الدرس وبهذا فهو قد حرق مراحل كثيرة وبدد مخاوفنا وخلق جمهورا بمستوى راق.
لابد من تعزيز هذه التجربة وتأصليها أن الأقضية والنواحي في عموم البلاد بحاجة إلى رعاية ثقافية مستمرة وعدم الاقتصار على العاصمة ومراكز المحافظات .
وأخيرا لابد من الإشادة لجهود الدكتور خميس خلف حسن عميد كلية التربية الأساسية بتوفير كافة مستلزمات العرض ومتابعته المخلصه لشؤون الوفد .كذلك ذكر الشيوخ والشباب الذين دعموا العرض في كل الوسائل اللوجستية ومنهم الشيخ رافع خليف احمد الفرج وولده سعد والشيخ حمادة علي كصب كذلك الاستاذ سامي تركي عنتر والشاب همام فهد عنتر والسيد تركي المبرد والشاعر رمضان علي السليماني وآخرون وهم كثر ضربوا مثلا لحبهم لبلدهم العراقي العظيم .

(Visited 4 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *