كتب : محمد السيد محسن
اضافت الحياة السياسية لمظفر النواب تميزا لجهده الادبي , حيث بان على شعره تجواله بين العوالم التي لم يفكر ان تطأها قدماه , ولكن الوضع السياسي المرحلي المتقلب افاض عليه بتلك المعرفة وتجسيدها في قصائده.
ومن أهم ما اهتم به مظفر ترسيخ بعض الالفاظ الجنوبية المستخدمة في مناطق الهور وتجسيدها في بعض قصائده المكتوبة باللهجة الدارجة , حيث دلل مظفر على ذكاء متميز في احياء بعض الالفاظ عند تضمينها قصائده خصوصا قصيدة “حجام البريس” والتي كتبها حين كان مقاتلا مع مجاميع الكفاح المسلح الشيوعي , وهم الشيوعيون الذين انفصلوا عن اللجنة المركزية للحزب بعد عام 1967 , وبداوا يؤمنون بالكفاح المسلح لتغيير نظام الحكم , مستلهمين تجربة تشي جيفارا ونظريته “العنف الثوري” والتي طبقها في دول شتى حتى نجحت في كوبا , واستطاع مع رفاقه تسنم مقاليد الحكم في البلاد بعد اسقاط الحكم الديكتاتوري ل “فولغينسو باتيستا” .
وحجام بطل جنوبي “هوري” من هور الغموكة التابع اداريا لقضاء الشطرة في محافظة ذي قار. كان حجام فلاحا , ثم امن بما يعتقده الشيوعيون في الكفاح المسلح فترك “المسحاة” ووضع تحت ابطه البندقية ليشارك رفاقه نضالهم المسلح لمحاولة البحث عن وطن حر وشعب سعيد.
وقد اشتهرت هذه القصيدة كأكثر ما كتب مظفر تضمينا للهجة اهل الهور وهو ابن مدينة لم يأت ليتعلم اللهجة وانما ليحمل سلاحه من اجل البحث عن حلم الوطن الحر.
ويبدأ قصيدته ب:
أواكح
جني أيد تفوج
ومكطوعة اصابعها
أشوغ وي الشمس ليفوك
أعاتب كاع
مدفون ابنبايعها
—-
حيث “أواكح” يعتبر مصطلحا مظفريا استلهمه من الهور , واستخدم كذلك : أفا يا كاع ” وهي تعبير الحسرة في اللهجة الجنوبية , حيث يقول :
أفا يا كاع
ينبت بيج للواوي عنب
يا طيبة
ويعرس عليج الذيب.
—-
ولأول مرة اقرأ لشاعر بعض الالفاظ المستهجنة والسلبية لكنها تسخر في القصيدة بشكل ايجابي ويستطيع القارئ ان يمر عليها ولا تشمئز نفسه كما في الواقع .
—
أمد صبري على صبرج , واحفر سراديب
لو صرتي زبل .. من زود المزبلين
لو داروا عليج سيان طينتهم
يحلوة
سنين
وكولن كاعي واعرفها
اكولن كاعي ,
يتنفس بريتي ترابها
وحبها
وبصلها
والشمس
والطين
—-
والسؤال هنا : من من الشعراء لديه الجرأة ان يبث الحياة في الفاظ : زبل , سيان , بصل , ليجعل منها تنبض حية في القصيدة بحيث انها تكون المعنى ودونها يفقد المقطع الشعري حلاوة وصفه؟
انه بلا شك مظفر .. البغدادي الذي ضمن قصيدته في قصيدة “ايام المزبن” :
هيلك صلف .. كلش صلف
تلني ولحس بعراني
شحرك يبو عكال الترف
دك غفوتي ووعاني
—-
وتلني هنا : سحبني بشغف
ولحس : تعبير عن قوة حب الحبيب لحبيبته
والعران هو حلية تلبسها الإناث في الاهوار حيث يتم ثقب الانف للتزين بها وعادة ما تكون من الذهب.
ثم يمعن بتجسيد الحب من خلال بيئة الهور وليس المدينة , فيقول :
ياطينة بلدنا .. يا أصل كل طين
بيها نعيش … وبيها نموت
وبيها يخضر من عيونه البربين
واليندفن بأرض أهله , عدل , حي ,
يسمع الحنطة
ويحس عروكها بصدره
زنشيش الماي
والميت بكاع الغير وحده يموت
—
وبالحقيقة لم اجد من يستخدم البربين للتمثيل الشعري الا مظفر النواب , والبربين هو نوع من الخضار التي تطبخ احيانا واحيانا اخرى يتم تناولها بمعزل مكملة لوجبة الطعام.
وأهم بيت اشتهر من قصيدة “حجام البريس” هو ما لمح فيه مظفر لرفاقه في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بتفريطهم في الحكم فترة عبد الكريم قاسم الذي قربهم ومع ذلك فرطوا بقوتهم وذهب الحكم منهم الى القوميين والبعثيين , بعد انقلاب الثامن من شباط ومقتل قاسم.
فقال مظفر بلغة التهكم الاستنكاري لرفاقه في اللجنة المركزية :
صاحت أخته :
لا ياخوي .. لا يازين
لا تمشيش راك الراك
يابن الحرة
ما يستوحش التفاك
يابن الحرة
لا بد ما تفرخ الكاع
هذا عراك
هذا عراكنه الموصوف للعميان … والميتين
وادوه لكل حزن وفراك
يابن الحرة
حط عينك ولا تغفل
غفل كبلك حزب وانباك.
—–
وبقي مظفر حتى اخر قصائده وهو في الشام وترفها , وياسمينها , بقي وفيا للهجة الاهوار , وكتب في قصائده الاخيرة ما تضمن الفاظ الهور , وكأنه ادمن التعايش مه تلك الفترة التي ناضل فيها متحملا ضنك العيش والجوع , وكأنه مازال يتحدث مع “سعيده” شقيقة “حجام” التي كتب على لسانها القصيدة , والتي القي القبض عليها عام 1970 وتقلت الى سجن الرفاعي.
ومن قصيدة حمام نسوان كتب مظفر مستخدما لفظ “غاد” و “الكاغد” و مصطلحات جنوبية اخرى , كان لا يستخدمها البغداديون .
حزنك جمالة شته
وكاعد لوحدك غاد بوزية عمر
والكهوة جنهه سنين نطرت ناس
مسحتهم صفنتك
شارع مغوش حجي
بيه ريحة ناس مالك شغل بيهم
عينك مراية وكت ما بيه أحد
مثل وركة يانصيب انتهت
—-
اعتقد ان مظفر كان يتحدى نفسه في بعض لحظات كتابة القصيدة , فيفتش عن الفاظ ثم يبث بها الاروح ويجعلها عماد القصيدة.
مظفريات 12 / ابن المدينة ولهجة القرية والهور / محمد السيد محسن
(Visited 8 times, 1 visits today)