محمد عبد الجبار الشبوط – كاتب ومحلل سياسي
لا يبدو ان مسألة “الشرعية السياسية” تشغل بال بعض المطالبين بالاصلاح و”الثائرين” ضد الفساد.
ينقل الباحث اللبناني الكبير جورج طرابيشي في كتابه “نظرية العقل” (ص ١٤) عن الفرنسي لا لاند تعريفه للعقل المكوَّن بانه “منظومة المبادئ المقررة و المصاغة والتي لا تتغير الا ببطء شديد بحيث يمكن اعتبارها من منظور الافراد وظروف الحياة بمثابة حقائق ابدية”. ويذكر (ص٢٨٣) نقلا عن “معجم مفردات العلوم الاجتماعية” ان “العقلية هي جملة العادات الفردية او الجمعية في التفكير او الحكم، علما بان العادة تستبعد التفكير النقدي لصالح الاحكام المسبقة”.
ويبدو لي ان “العقل المكوَّن” و”العقلية” لدى عدد لا بأس به من الناس في العراق يتقبل عدم التفكير بالشرعية السياسية وهم يفكرون بالمشاكل التي يعاني منها العراق، وبالحلول التي يقترحونها لحل هذه المشاكل.
فمثلا تراهم يطالبون بحل مجلس النواب او تعليق الدستور او تشكيل حكومة انقاذ وطني او حكومة طوارئ او حتى الدعوة الى المستبد العادل دون التفكير بشرعية الجهة التي تأخذ مثل هذه القرارات المصيرية، ومصدر هذه الشرعية. ذلك ان اي سلطة تتحكم بالناس يفترض بها ان تكون “شرعية”. لكن ماهو منشأ هذا الافتراض، وماذا نقصد بالشرعية، ومن اين تأتي الشرعية؟ يبدو ان هذه الاسئلة من المسائل اللامفكر فيها في العقل والعقلية السياسيتين لدى الذين يطرحون هذه المقترحات بمعزل عن الشرعية.
اذا اردنا ان نتتبع تاريخ مسألة الشرعية في المجال السياسي العربي والاسلامي، فان الزمن سيعود بنا حوالي ١٤٠٠ سنة، الى عام ١١ هجرية حين توفي الرسول محمد (ص) وواجه المسلمون لاول مرة الفراغ القيادي في الدولة النبوية الحديثة التي تاسست قبل ١٠ اعوام. وبالمقدار الذي حفظه التاريخ لنا من النصوص، فان مناقشات السقيفة، وهي الاجتماع الذي دعا اليه الانصار على عجل لبحث مسألة الحكم بعد الرسول، واقتحمه المهاجرون، وغاب عنه اهل البيت، سوف تكشف وجودَ احساس باهت بمشكلة الشرعية، كما سوف نلاحظ حلولا مقترحة منطلقة من القيم العربية البدوية التي كانت سائدة قبل الاسلام، حيث تداول المجتمعون عبارات مثل:”لا يرضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم”، و “من ينازعنا سلطان محمد وميراثه”، وما شابه ذلك دون الغوص عميقا في مسألة الشرعية. الى ان وصل الامر الى معاوية بن ابي سفيان الذي فصل الدين عن الدولة، واقامها ملكية علمانية وراثية مستبدة، لتنحط فكرة “الشرعية السياسية” الى الدرك الاسفل، حيث قال الفقهاء بجواز امارة المتغلب، او صحة بيعة الواحد، وهكذا. وفي العصر الحديث، دعا ثوار ثورة العشرين الى ملكية عربية وراثية، استمرت حوالي ثلاثين عاما، ثم استولى الضباط الاحرار على السلطة استنادا الى ما سموه “الشرعية الثورة” اسوة بزملائهم في مصر الذين استولوا على السلطة بدورهم في عام ١٩٥٢. وبعدها استولى البعثيون على السلطة، حتى سقوطهم المريع في عام ٢٠٠٣.
عالج جان جاك روسو مسألة الشرعية في كتابه الشهير “العقد الاجتماعي” عام ١٧٦٢، والذي اعلن فيه ان الامة هي مصدر الشرعية. والان استقر في الفكر السياسي العالمي ان الامة او الشعب هو مصدر الشرعية. وقد اقر الامام السيستاني بهذا في الكلمة السياسية لصلاة الجمعة ١٥ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩ ان “الحكومة إنما تستمد شرعيتها ـ في غير النظم الاستبدادية وما ماثلها ـ من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، وتتمثل إرادة الشعب في نتيجة الاقتراع السري العام إذا أُجري بصورة عادلة ونزيهة.” ولكن يبدو ان بعض دعاة الاصلاح والثائرين على الفساد لا يقرون بذلك، والدليل على ذلك ان بعض مقترحاتهم تقفز على مسألة الشرعية وتوافق على منح السلطة على الناس لمن لا يملك شرعية واضحة في ممارسة السلطة. وكأنهم لا يدركون ان سلطة غير شرعية لا تقل سوءاً وفسادا عن الفساد نفسه. ان الاصلاح الحقيقي يجب ان ينطلق من مسألة الشرعية، ثم تاتي التفاصيل الاخرى.