النزلاء المسنون

النزلاء المسنون

وهو في جلسته الطويلة الساكنة مقابل التلفزيون المطفأ سمع
أصواتا في الممر الذي تقع فيه شقق سكان البناية الخاصة
بالمسنين. نهض متكئا على عصاه حذرا كي لا تنزلق على أرضية
الغرفة ويسقط فوقها، ثم مستعينا بالجدار حتى باب شقته. فتحه
وأخرج رأسه فرأى عمالا يدخلون أغراض نزيل جديد إلى شقة جاره
ريتشارد في الطابق الأول.
آخر مرة رأى فيها ريتشارد كانت قبل شهر.
في الصباح، وهو في الطريق إلى البقالية لشراء خبز وحليب، مرتديا
كمامة حسب توصيات خبراء الأوبئة والفيروسات المعدية، رآه ممددا
على الأرض وإلى جانبه ممرضة تحاول أن تسنده إلى السياج الواطئ
وتنظف جرحا في جبينه، يجاورها ممرض راح يقيس ضغط ريتشارد
الذي كان يحاول فتح عينيه الزرقاوين الذابلتين. وقف نزيل الطابق
الأول قرب سيارة الإسعاف آماً أن يراه ريتشارد ليسأله عما حدث.
لكن ريتشارد في تلك اللحظة أغمض عينيه.
مسحت الممرضة جرحه وربطته بقطعة شاش أبيض. قالت دون أن
تنظر إلى نزيل الطابق الأول الواقف قريبا منها يتطلع في يديها
الماهرتين: «جرح بسيط حدث أثناء سقوطه ». لم يفق ريتشارد من
غيبوبته فحماه إلى داخل السيارة وانطلقا به إلى المستشفى.


هنا تدور الأيام ببطء رتيب، وتمضي سنوات العمر من غير أن
يلمحها أحد، تنزلق كقطرات، وتختفي في ضباب المدينة الباردة.
غالبا ما يقابل نزيل الطابق الأول أحدا من سكان البناية حين
يهبط لغسل ثيابه في غرفة الغسالة الضخمة المشتركة في الطابق
الأرضي في آخر القاعة.
ثمة رجل يمشي بوهن في تلك القاعة المستطيلة معتمدا على
قوائم حديدية ينقلها مع كل خطوة مترددة مرتجفة من ساقيه
الناحلتين.
قرب نافذة واسعة تجلس امرأة عجوز بملابس بيض تحدق ساهمة
في الفراغ، ربما تفكر بالسنوات أو الشهور المتبقية لها في الحياة
فيما يسمع نزيل الطابق الأول محرك سيارة إسعاف يتوقف عند
بوابة البناية.
يوم كئيب آخر بلون الزمن الشاحب الذي يذوي ساعة إثر ساعة.
يرى، هو والعجوز عبر النافذة، امرأة محمولة على نقالة، بموازاتها
فتاة قلقة متوترة. كانوا يتجهون نحو سيارة الإسعاف أمام البناية.
أدرك أنها ابنة المرأة الهندية التي تسكن في إحدى شقق الطابق
الأول.
تلك المرأة الهادئة المسالمة التي لا تبتعد عن شقتها إلا لتنظيف
ثيابها في غرفة الغسيل. كانت تتكلم معه بالإشارة لأنها لا تحسن
الإنكليزية.


في العام الماضي هبط جميع سكان البناية، الرجال والنساء، إلى
القاعة لإحياء حفلة رأس السنة الميلادية.
بتوقيتهم الخاص، توقيت الزمن الجليدي المتخثر، بدأت الحفلة في
الثانية ظهرا. أضاؤوا الشموع والمصابيح وأطلقوا الموسيقى.
رأيتهم يبتسمون. لأول مرة كانوا يبتسمون، حاول بعضهم الرقص،
وحين تعبوا عادوا إلى كراسيهم الثابتة أو المتنقلة.
استمرت الحفلة ساعتين فقط بعدها سيطر الإرهاق أو النعاس
عليهم. وقبل أن يتفرقوا عرّفته شانون الإيرلندية على ابنتها كييرا
التي جاءت برفقة زوجها لزيارتها. كانت شانون سعيدة بهما وفي
غاية المرح والبهجة، وقالت إنهما ينتظران مولودا.


بعد نحو عام أو أكثر اختفت الأصوات في الطابق الأول، ولم يعد
يرى أحدا من نزلائه الستة عشر المسنين أثناء نزوله السالم إلى
الشارع لشراء احتياجاته.
كانت الأبواب والنوافذ مغلقة صامتة، ولم يجرؤ على السؤال.
في صباح أحد الأيام، وهو في جلسته الطويلة الساكنة أمام
التلفزيون المطفأ، أحسس بالاختناق. خاف من الوحدة. كان دائما
يخاف من فكرة أن يموت وحيدا، فقرر النزول إلى الشارع.
كان الممر في الطابق الأول موحشا. مشى بصعوبة متكئا على عصاه
أو مستندا إلى الجدار أو الدرابزين نحو بوابة البناية. وقف هناك
منتظرا أحدا ما، شيئا ما، ورأى سيارة إسعاف قادمة من بعيد.

(Visited 1 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *