هلسنكي ــ يوسف أبو الفوز
تعيش فنلندا، فترة يسميها السياسيون ووسائل الإعلام (الفترة الرمادية)، تمتد من تأريخ تقديم فنلندا طلب الانضمام لحلف الناتو، في 18 أيار، حتى موعد التصديق عليه من قبل مؤسسات حلف الناتو، وتستغرق هذه الفترة حسب تقديرات المسؤولين في حلف الناتو من 4 إلى 12 شهرًا. السؤال الأبرز والأكثر الحاحا: كيف ستعيش وتكون فنلندا خلال (الفترة الرمادية)؟ ما احتمالات تعرض فنلندا الى اعتداءات من قبل روسيا سواء عسكرية مباشرة، هجمات سوبرانية (اليكترونية) أو إجراءات أخرى؟ ما حجم المشاكل الاقتصادية الناجمة عن ذلك؟ وأسئلة أخرى متداخلة.
ورغم تهديد وزارة الخارجية الروسية بأن موقف فنلندا الجديد يتطلب اتخاذ خطوات انتقامية، ذات طبيعة عسكرية – تقنية وغير ذلك، إلا ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلل من أهمية انضمام فنلندا والسويد الى حلف الناتو، وأعلن بأن هذا لا يهدد موسكو بشكل مباشر، لكنه شدد على أن أي توسع في البنية التحتية العسكرية للحلف من شأنه أن يؤدي إلى رد من قبل روسيا، في خطوة بدت وكأنه يسحب من البلدين بساط الحماس والنشوة لهذا القرار، كل هذا ترك تأثيره على التوقعات في نوع الرد الذي ستلجأ أليه روسيا انتقاما من الجار الذي تربطها به حدود طولها 1300 كم وانحاز كليا الى الجبهة الاخرى التي يعتبرها الكرملين تهدد وجوده الجيوـ سياسي.
بادرت العديد من دول أعضاء حلف الناتو، في مقدمتهم بريطانيا، لتقديم ضمانات أمنية لحماية فنلندا والسويد رسميا خلال (الفترة الرمادية)، الا ان هاجس مخاطر العمل العسكري الانتقامي الروسي دفع الرئيس الفنلندي للسفر الى واشنطن مع رئيسة الوزراء السويدية، لإبلاغ رسالة غير مباشرة الى موسكو، والى الحكومة التركية في نفس الوقت، التي عارضت انضمام البلدين الى حلف الناتو بحجج سماحهما بنشاط حزب العمال الكردستاني وفرضهما حظراً على توريد الأسلحة إلى تركيا منذ عام 2019.
أولى الخطوات الانتقامية التي باشرتها روسيا مع فنلندا قيامها بطرد عدد من الدبلوماسيين الفنلنديين، ثم قطعت الكهرباء، التي تغطي نسبة حوالي 10 في المئة، من احتياجات فنلندا من الكهرباء، وبينت الجهات المسؤولة انها ستتمكن من توفير هذه الكمية من إمدادات الطاقة الكهربائية من مصادر بديلة، ثم أعقبت روسيا ذلك بقطع الغاز، الذي يغطي أقل من عُشر استهلاك البلاد من الطاقة.
ان قطع الغاز والكهرباء، سببا ارتفاعا في أسعار الكهرباء والمحروقات في عموم البلاد، فالبدائل، الكهرباء من السويد والغاز من بولندا، المستورد من دول أخرى، ويصل فنلندا عبر لاتفيا وليتوانيا، أصبح أكثر كلفة. وتبعا لذلك أعلن معهد الموارد الطبيعية في فنلندا ان متوسط سعر المواد الغذائية شهد ارتفاع بنسبة 10 في المئة هذا العام مقارنة بمستويات العام الماضي، وستؤدي الزيادات المتوقعة في أسعار الحبوب واللحوم ومنتجات الألبان إلى زيادة متوسط فاتورة البقالة للأسرة بما يصل إلى 500 يورو هذا العام. وبدا واضحا ان الحرب في أوكرانيا وظلالها على فنلندا، ألقت كما متوقع بتأثيرها على ميزانية الدولة، وسط مخاوف المعارضين للانضمام لحلف الناتو بكون هذا سيسبب في تراجع الانفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم مثلا، وإذا ألقينا نظرة على البيانات الحكومية سنجد ان الحكومة الفنلندية اقترحت مؤخرا زيادة صافي الإنفاق بنحو 2.3 مليار يورو في مسودة الميزانية التكميلية الثانية لهذا العام وحددت أنه سيتم تخصيص ملياري يورو لميزانيات الدفاع، وهذا سيزيد من إجمالي دين الحكومة المركزية على الميزانية إلى 138 مليار يورو في نهاية عام 2022.
على العموم نجد ان الحياة تسير بشكل طبيعي في فنلندا، فالمهرجانات الموسيقية ومباريات الهوكي، اللعبة الأكثر شعبية، تستمر بحضور جمهور كبير، والكثير من المواطنين يستعدون لنزهات الصيف حيث البحيرات والغابات، وبينت الاستطلاعات ان 86 في المئة من الفنلنديين يرون أنه من المحتمل أن تمارس روسيا ضغوطًا مختلفة على فنلندا أثناء الفترة الرمادية، وان هناك فقط نسبة 30٪ ممن يرون سيكون عمل عسكري روسي انتقامي.
ورغم بعض التهويل في بعض وسائل الاعلام العالمية لكننا نجد انها لا تعكس كامل الحقائق، ومن الطبيعي ان البلاد تستعد لكل الاحتمالات، فمنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، صار معروفا ان باب التطوع فتح في فنلندا وشارك الكثير من الافراد في التدريبات العسكرية التطوعية، بل وتسعى وزارة الدفاع الفنلندية لأجراء تعديلات على قوانين حيازة الأسلحة والذخيرة لتسهيل حصول الموطنين على السلاح، أيضا قدمت الحكومة الفنلندية ما يزيد عن ثلاثة ملايين يورو لمنظمات الدفاع الوطني كمساعدة، خصص معظمها لجمعية تدريب الدفاع الوطني الفنلندية التي تنظم تدريبات الرماية. وسمحت الحكومة الفنلندية في الفترة الأخيرة، لوسائل الاعلام للكشف عن استعدادات البلاد في توفير الملاجئ الحصينة الكافية للسكان في خطوة غير مباشرة لطمأنت المواطنين، وبث خطاب هادئ لا يثير الرعب، مع توجيه المواطنين للاحتفاظ بما يكفي من الشموع والماء لعدة أيام تحسبا للطوارئ وأيضا مؤنة كافية من الأغذية الجافة والمعلبات.