عبد الجبار عباس عاش فقيرا ورحل فقيرا
الكاتب كافي لازم ….
هل الفقر هو قدر الانسان . أم هو نتيجة حالة تخص فردا محددآ . ام حاله مجتمعيه لها علاقة بظرف اقتصادي ما وهو الأكثر معقوليه . ولكن لا يمكن أن يتحمل أنسان ما ان يحيى فقيرآ (منذ نعومة اظافره حد وافته) وهل (الخبز) هو الحاله الوحيده التي تؤمن استمرارنا بالحياة . مع أن السيد المسيح يقول (ليس في الخبز وحده يحيى الانسان) فالانسان كتلة من المشاعر والأحاسيس أيعقل هذا الكائن العظيم(الانسان) أن يأكل خبزا بلا كرامة؟ و بلا حياة يمارس طقوسها في العمل ؟ وهل للحياة تقرر بأن فردا ما عليه أن يعيش في عوز وفاقة طوال حياته وانسان أخر شبعانآ لديه فيض من المال والرفاهيه؟ انه الظلم بعينه..
يظن كثيرون أن الفنان عبد الجبار عباس ولد في بغداد ولكن بعد التحري تبين أنه ولد في قضاء علي الغربي التابع لمحافظة ميسان عام ١٩٣٣م ولم يكمل التسعة أشهر في بطن أمه وقد جاء إلى هذه الدنيا ضعيفا منهكا متعبا أي كان (أسبيعي) كما يقولون وهو الوحيد لأهله يين ثمان بنات . تكاثرت العائلة وضاقت بهم سبل العيش مما اضطر والد عبد الجبار الرحيل إلى العاصمة بغداد في ثلاثينيات القرن الماضي وقد سكنوا منطقة تسمى (الصنم) ويقصد به الصليب الذي هو بالأساس مقبرة العوائل المسيحيه بين منطقة الباب الشرقي وباب الشيخ ..
تطوع الوالد بسلك الشرطة براتب ضئيل لا يكفي لسد رمق العائلة المؤلفه من ثمان نفرات مما أضطر الوالد أن يعمل في الحمامات ولأخلاصه بالعمل جعله صاحب الحمام مسؤول عن الأمانات وهذا المكان مجزي حيث الاكراميات الكثيرة من الزبائن . كان والد عبد الجبار عباس يعاني من مرض مزمن وهو (الصرع الشديد) وفي أحد إلايام بينما هو يعمل في أنارة الفانوس وكان وحده في المكان انتابته موجة الصرع مما أدى إلى انكفاء الفانوس وانتشار النفط واحترق المكان بأكمله واحترق والد عبد الجبار عباس مما أدى إلى وفاته (رحمه الله ).
وهنا تعقدت الحاله الاقتصادية للعائلة حيث ذهب المعيل الوحيد . غير أن زوجتة (أم عبد الجبار ) اضطرت ان تعمل في البيت وتطبخ الشوربة والخبز ويقوم عبد الجبار عباس في بيعها في السوق حينها أصبح يافعا و اندمج اكثر واكثر بالحياة المدنيه حيث كانت المدينة تعج بالحركة إلى ساعات متأخرة في الليل وكثرة وسائل الترفيه (الملاهي والسينمات) مما اضطر عبد الجبار عباس يعمل عملا اخر في محل (فيتر) لكي يوفر ثمن بطاقة السينما وقد تأثر كثيرا بالفنان يوسف وهبي وكان دائما يجيد تقليده بالأداء وعند دخوله بالمدرسة الجعفرية وبوجود الرائد جعفر السعدي بهذه المدرسة الذي عرف بحبه للمسرح استعان بعبد الجبار في مسرحياته وقد مثل في تلك الفترة دور (أم علي) نتيجة لعدم توفر العنصر النسائي في ذلك الوقت (والغريب ان بعد هذه السنين الطويلة أدى كذلك دور أمرأه في ثمانينات القرن الماضي في مسلسل ابو البلاوي ).في ذلك الوقت من عام ١٩٥٦م انتمى إلى فرقة المسرح الشعبي وعمل في مسرحية (يريد يعيش) ثم انتمى لفرقة المسرح الحديث عام ١٩٥٧م والفن الحديث عام ١٩٦٥م بعد تجديد اجازتها ضمن قانون الفرق الاهليه عام ١٩٦٤م .
عمل في السينما ممثل وملاحظ ومساعد المخرج في أفلام سعيد أفندي – ابو هيله – عروس الفرات و فتنه وحسن . بالإضافة لوظيفته كمخرج اذاعي في البرامج الريفية. أهم ادواره (مرهون ابو قنبوره) في النخلة والجيران وقد اشتركت ابنته معه في هذه المسرحية وهي صغيرة العمر . كذلك دوره في مسرحية الشريعه(عمر حساني ) وفي الخان دوره(محي الباصوان) كذلك في بغداد الأزل وهاملت عربيا فضلا عن اشتراكه في دبلجة الكثير من مسلسلات الأطفال الكارتونيه المدبلجة . الملاحظ من هذا الفنان المتفرد أن معظم الشخصيات التي قدمها قريبة له وتاريخ معاناته من قسوة العيش والقهر والظلم السائد في فترات حياته منذ أن كان طفلا انتمى إلى الطبقه الفقيرة بامتياز فلا بريق أمل للخلاص اول النهوض لحالة افضل مما أدى به إلى الاحساس بأن هذا الوضع البائس ماهو إلى لحالة الوضع السياسي السائد بعهد الملكية والاقطاع مما حدى به الانضمام إلى الحركة اليسارية التي كانت نشطة جدا تلك الفترة وادرك بشبابه أن النضال الحقيقي يبدأ من هنا وبالتالي الخلاص من هذه الطغمة الفاسدة .
وفي خضم نضاله وفي اثناء عمله في دق لافتة مضمونها ضد السلطة وأذا احد افراد من القوة المناوئه لفكره ضربه ضربة على رأسه بواسطة (بوري حديد) مما جعل دمه ينزف كنافورة ماء وهو كما نعلم ضعيف البنيه متهالك نتيجة الجوع الحاصل تلك الفتره حينها نقل إلى مستشفى الطوارئ وكان المسؤول عن علاجه الدكتور المشهور(ادور عيسى) مدير المستشفى الذي أقر أن جبار عباس أما أن يموت او يصيبه مس من الجنون
واخيرا نجا بأعجوبة من تلك الضربة وبعدها لم يترك عمله السياسي واستمر بالحركة السياسيه متزامنا مع عمله الفني في السينما والمسرح وعند انقلاب ٨ شباط اخذ نصيبه من الفصل السياسي والملاحقات وقضى في سجن (خلف السده ) عدة شهور وبقيت عائلته بلا معين ثم صدر قرار العفو وشمله وخرج من السجن ولكنه مفصول من وظيفته استمر نشاطه الفني ولكننا نعلم تماما أن الفن في العراق (ميوكل خبز) هذا بالاضافة الى ان أفراد اسرته ولد واحد و٨ بنات ومع ذلك حرص على دخولهم المدارس ونشأتهم بشكل جيد رغم الظروف الصعبة.
بعد انقلاب ١٧ تموز عام ١٩٦٨م صدر قرار بأحالة المفصولين السياسيين لوظائفم وعاد عبد الجبار عباس لوظيفته كمخرج اذاعي وقدم كثير من التمثيليات الاذاعيه اخراجا وتمثيلا كذلك في التلفزيون وقد اشترك في المسلسل الاشهر (تحت موس الحلاق) وعمل في المسرح وبالاخص فرقتة الاثيرة إلى نفسه فرقة المسرح الفني الحديث. وقد واجهته مشاكل أخرى كثيرة منها أنه بدون (شهادة الجنسيه ) وهنا تدخل المرحوم طارق حمد العبدالله رئيس ديوان الرئاسة وصدر له الشهاده وأسرته كذلك وحينما تخلف ابنه الوحيد (صادق) عن الخدمة العسكرية بأيام طويله سعى له والده عند القاده العسكريين وكان موضع احترام وتقدير له وحذفوا جميع ايام غيابته الطويله وكان سبيلا لحل جميع معاملات الأسرة في دوائر الدولة .
يتميز جبار عباس بحبه والتزامه المبدأي بفرقته العريقه فرقة المسرح الحديث وهو دائم التواجد اليومي في الفرقة بغض النظر انه مشترك او غير مشترك بعمل مسرحي معين ودوامه ثابت ومنتظم .وعندما يسند له دور ما في أي مسرحيه فهو من القراءة الاولى للنص يمسك الشخصيه بشكل مباشر ويؤدي منذ الجملة الاولى اما في القراءة الثانيه يكون قد لبس قطع من الاكسسوار ليقترب من الشخصيه اكثر.
أما اثناء العرض فهو نموذج للألتزام بتوصيات المخرج ولا يتجاوز على النص مطلقا كما أنه يتدارك أي شكل طارئ يحدث اثناء العرض في الأثاث او الديكور او الاكسسوار ويشد من عزيمة زميله ان حدث ارباك ما بدون أن يؤثر على إيقاع العمل ولا علم للجمهور في ذلك .فضلا عن أنه مستعد لأي مهمه يكلف بها من قبل الفرقه سوى قاطع تذاكر او منفذ انارة أو موسيقى او دليلا لإدخال الجمهور للكراسي المرقمه هذا اذا لم يكن له دورا في المسرحيه بالإضافة لشخصيتة الفكهه والنكتة التي هي حاضره دائما يحملها معه في كل الظروف أضف إلى حالة النبل والأيثار والتضحية والروح الشعبيه إذ تمتع بحب الجمهور أينما حل في امكنة بغداد الجميلة .
كل هذه النجاحات المستمرة لم يتمكن عبد الجبار عباس ماديا لمساعدة عائلتة الفقيره فبقى ساكن في الإيجار ولم يمتلك بيتا طوال عمره مع ان القدر دائما يتربص لهذا الفنان فأثناء سيره في احد ألليالي في شوارع بغداد صدمته سيارة مسرعه وقذفته أمتارآ ولم يصح ألا وهو في المستشفى وقد انكسرت اضلعه ورجليه حدث هذا عام ١٩٨٠م ولم تنجح كل المحاولات لارجاعه كما كان لحالته الطبيعية وبقى شهورا طويلة وهو مقعد وجسمه مشدود في (البلاتين) . بالتالي حدثت المصيبة الكبرى اذ أصبح عاطلا عن كل شيء واصبحت الضغوط المعيشيه لعائلته لا تطاق وهنا شمرت زوجته الراحله (ام صادق ) عن ساعديها ولم تستكين لهذا الوضع البائس فقد عملت من الصباح إلى المساء لكي تحافظ على الحد الأدنى من المعيشه وقد حرصت على إكمال أولادها للدراسه على اكمل وجهه . وبعد مناشدات كثيرة استجابة الحكومه وارسلته للاستطباب في لندن اذ نجح الأطباء هناك لارجاعه لحالة الطبيعيه رغم الوهن العام في جسمه واستمر في عمله الفني لفترة محدودة.
وكما قلنا سابقا ان القدر يتربص لهذا الانسان والفنان حيث جائت سيارة مسرعة يقودها سائق متهور وضربته في مقتل هذه المره.
كانت الضربة في مكان حساس في رأسه افقدته السيطرة على حواسه .أصبح فاقد للوعي لفترة طويل وأصيب بتلف الدماغ وفقدان الذاكره ولم يتعرف على أصدقائه وأفراد اسرته حدث هذا ١٩٨٦م إلى أن توفي هذا الفنان الكبير في مستشفى الكرامة عام ١٩٩٦م ..
ترك حزنا وأسى في قلوب محبيه وفي الختام لابد أن نشير لعائلته الخمس بنات و ابنه الوحيد صادق ووالدتهم تعلموا الدرس واتقنوه ونجحوا في اجتياز الكثير من المصاعب لاسيما السيدة والدتهم التي ناضلت وعملت بجد منقطع النظير فهي موظفة خدمة في المدرسه نهارا وتعمل في مركز صحي مساءا واستطاعت ان تحمي عائلتها وحرصت على تعليمهم. اغلب بناتها يعملن في التعليم ووظائف أخرى اما ابنه الوحيد صادق فقد حصل على شهادة الدكتوراه وهو الان يعمل في وزارة الزراعه و نتيجة لنشاطه والتزامه المهني تم اختياره على مستوى دولي بصفة (ميسر دولي ) لتسيير تجارة المنتجات الزراعيه ووقاية النبات IPPC التابعه لمنظمة الفاو ممثلا عن العراق وقد درس أيضا في لندن وايطاليا وإسبانيا.
محطات في الذاكرة / عبد الجبار عباس عاش فقيرا ورحل فقيرا
(Visited 12 times, 1 visits today)