سامي مهدي – شاعر وكاتب عراقي
.
شهدت السنوات القليلة الماضية ظاهرة لافتة للنظر ، أعني ظاهرة الكتابة عن يهود العراق وأدوارهم في حياته الإقتصادية والسياسية والفنية والأدبية . والملاحظ أن جميع من كتبوا عنهم هم من أجيال متأخرة نسبياً ، سمعت بهم ، وقرأت عنهم قليلاً أو كثيراً ، ولكنها لم ترهم وتتعامل معهم . وقد غلبت على هذه الكتابات نبرة عاطفية ، وحنين غامض ، وربما مشبوه أو مشوه ، إلى الماضي ، وتنزيه ساذج ، وجهل بالحقائق التاريخية أو تجاهلها أو تحريفها ، مع غض النظر عن ملابسات القضية الفلسطينية وانعكاساتها ، وعن دور المنظمات الصهيونية في تهجيرهم من العراق ، حتى ظهر من يشكك في دوافع هذه الكتابات وغاياتها .
.
ولست معنياً هنا بهذه الشكوك ، ولا بالبحث عن الدوافع والغايات ، ولكنني أعرف عن كثب أن الطائفة اليهودية في العراق كانت مغلقة على نفسها نسبياً ، لها أحياؤها وأزقتها ومدارسها وجمعياتها ونواديها الخاصة ، وكانت لا تنفتح على المجتمع إلا بحدود حاجاتها المباشرة ، باستثناءات محدودة ، ولذلك أسبابه التاريخية والإجتماعية والدينية والسياسية. .
وحين فتحت عيني على الحياة في أربعينيات القرن العشرين ، كان يهود بغداد تجار جملة يهيمنون على تجارة العراق الخارجية ، وباعة مفرد يسيطرون على أهم أسواقها : سوق البزازين وسوق الشورجة وسوق الصاغة المتفرّع من سوق السراي ، وهم تجار وباعة بارعون نشطون يبيعون بأرخص الأثمان ويجنون في النهاية أعلى الأرباح . وكانوا صادقين في معاملاتهم ، يحترمون زبائنهم ويحرصون على علاقتهم بهم ، ونادراً ما يغشونهم أو يخدعونهم . وكان منهم من عملوا موظفين في دوائر الدولة ، ومنهم من درسوا الطب والصيدلة والحقوق فأصبحوا أطباء مرموقين وصيادلة ومحامين ، ولكن هؤلاء وأولئك كانوا قلة قليلة .
أما على صعيد السياسة فقد ظهر منهم مناضلون ، تسنم بعضهم مواقع قيادية في بعض الأحزاب ، وخاصة الحزب الشيوعي العراقي .
.
وأما على صعيد الفنون فلم يكن لهم فيها باع طويل ، إذا استثنينا الملحن صالح الكويتي والمغنية سليمة مراد . فصالح الكويتي كان بحق فناناً موهوباً ومبدعاً وكان غزير الإنتاج ، وضع ألحان العديد من الأغاني التي اعتمدت المقامات العراقية واستلهمت البيئة المحلية وأسست لما عرف في ما بعد بالأغنية البغدادية ، وهذه مأثرة كبيرة لا يمكن تجاهلها وغض النظر عن قيمتها التاريخية ، ولكن غيره من الموسيقيين اليهود لم يكونوا أكثر من عازفين في فرق موسيقية صغيرة تحيي الحفلات ، بمن فيهم أخوه داود .
.
أما المغنية سليمة مراد فكان لها صوت جميل قوي رجولي متمكن حظي بشهرة كبيرة وإعجاب واسع ، ولكنه كان صوتاً واحداً من أصوات نسائية عدة غير يهودية كزكية جورج وعفيفة اسكندر، وإن كان شأنها أقل من شأنه .
.
وعلى الرغم من ظهور أسماء يهودية عديدة كتبت الشعر والقصة القصيرة ومارست الترجمة والكتابة الصحفية بعد تأسيس الدولة العراقية بمدة ، لم يكن لأي منها إنجاز شعري أو قصصي مهم يضاهي إنجازات الأدباء العراقيين الآخرين ، باستثناء القاصين شالوم درويش وأنور شاؤول . فمن المتفق عليه بين الباحثين أن هذين الرجلين كانا من رواد القصة القصيرة في العراق في إرهاصاتها المبكرة الضعيفة ، وكان الأول أهم من الثاني .
.
ولم يجرب يهود العراق كتابة الرواية إلا بعد الهجرة ، ويعد سمير نقاش أبرز من كتبها منهم وهو أكثرهم غزارة في إنتاجه وأحدثهم في تقنياته . ومع ذلك لم يكن له شأن مهم في عالم الرواية ، ولم يعرف إلا ضمن نطاق ضيق من المهتمين والمتابعين .
ما أنتجه يهود العراق من أدب قبل الهجرة يعد أدباً عراقياً دون ريب . أما ما أنتجوه بعد الهجرة فيصعب تصنيفه وتحديد هويته ، ولكن لا يمكن عدّه أدباً عراقياً ، أو عربياً ، وإن كتب باللغة العربية وكان فيه من الحنين إلى العراق ما فيه . وقد يصح أن نعد بعضه ( أدب منفى ) كأدب نعيم قطان وسمير نقاش ، ولكن بعضه الآخر ( أدب إٍسرائيلي ) دون لبس .
.
وإذا نظرنا اليوم في تاريخ الأدب العراقي الحديث فلن نعثر على أديب يهودي واحد كان له شأن مهم فيه . فكلهم ، في واقع الأمر ، أدباء ثانويون ، مروا بهذا التاريخ مروراً سريعاً دون أن يتركوا أية بصمة مؤئرة ، ولذا فإن النفخ في قيمة نتاجاتهم الأدبية يجافي الحقيقة .