الحسيـــــــــــــــــن كما أراه / حامد الملكي

الحسيـــــــــــــــــن كما أراه / حامد الملكي

حامد المالكي – كاتب عراقي

 

عندما كنّا صغارا، نذهب مع أمهاتنا الى “الملاية” تلك المرأة التي غالبا ما تكون بدينة، ولها صوت نعي حزين، تنشد كلمات بلحن لا يشبه الأغاني التي نسمعها في التلفزيون، لحن يشبه صوت الموت، الذي لا تسمعه، بل تشعر به.

في الغرفة -الصالون عادة- تتجمع أمهاتنا، يضربن على صدورهن، وهن يرددن كلمات لم نكن نشعر بمعناها ولا تمثل أي قدسية لنا، إلا عندما نرى الأمهات يبكين بحرارة، فنبكي معهن على بكائهن، لا على شيء آخر، وتقام هذه الطقوس الأيام العشرة الأولى من شهر محرم، وتكاد أن تكون هذه الأيام مختلفة في بعض الأحيان، خاصة في يوم مقتل العباس، فينشدن:
“احتار وصبت عيونه/ عطاشه اطفال يتنوننه/ منه الماي يردونه/ وهو مگطعه زنوده/ تبده الماي شيلمه/صارت دنيته ظلمه/ وعليه اعداه ملتمه/ عينه بسهم ممروده”.
ثم توزع الزردة، وهي خليط الرز بالحليب والسكر ويرش فوقها الدارسين أو القرفة كما تعرف، وفي يوم زواج القاسم، يندبن:
“عريس العرس عافة/ استحرم لذة ازفافة/ جسام حلوة اوصافة/مات ويابس السانه
ثم تدور “صينية” فيها الشموع والبخور والآس.

ولم يكن البكاء وحده، واللطم، السمة الغالبة على هذه التعازي، بل يقدم النصح والوعظ الديني من قبل الملاية، والتذكير بلوعة نساء الطف، كزينب وسكينة والأطفال الأبرياء الذين ذبحتهم سهام الأعداء من الوريد، حتى يهدأ النواح، فتأتي صينية فيها علب السكائر من مختلف الأنواع، بغداد، سومر الماني، سومر أبو الچيس، أريدو، ريم الأردنية، وأحيانا، خاصة في “التعازي” التي تقيمها اسر ميسورة، تتواجد في الصينية أنواع أرقى، روثمن أبو العلامة الحمراء، وأبو الزرقاء وهذه تأتي من الكويت تهريبا، كذلك كريفن أبو البزون، الفرنسي ديموريه، والدنهل الأحمر العريض، فتقدم هذه الصينية الى المعزيّات، كنّا نحن الصغار، نمدّ أيدينا وندخن دون أي محاسبة، فالأم مشغولة بعد تراجيديا اللطم، بالسؤال عن هذه البنت التي “تلطم” برشاقة، وتلك التي لديها ضفيرة شقراء -لم يكن صبغ الشعر قد وصل للعراق بعدُ- وتلك “المربربة” أم خدود -لم يخترع البوتكس بعدُ- وكل هذه الأسئلة للبحث عن زوجة لأبنها، أو تجد أخريات “يقشبن” في السوالف، عن أم فلان التي تركت تنور الزهراء الطيني وصارت تشتري من خبز السوق “العالوچة” فتسمع صوت جانبي: “أي عيني ليش لا؟ اترقت” أو تلك التي تزوج أبنها “معلمة” فرفعت أنفها متباهية، والكثير من هذا الكلام، ثم يشربن الشاي ويأكلن الكعك الأسمر، الذي لم يكن غير “السيد” في شارع الرشيد يطبخه بإتقان، محل “كعك السيد” الذي افتتح عام 1906، قبل وجود غالب الدول العربية اليوم، وأذكر أني تجادلت مع صديق من إحدى هذه الدول، عن العراق واستقلاله المبكر قبل كل الدول العربية، فقال لي: ” بلدنا أقدم من بلدكم” فقلت له: “صحيح، لكن كعك السيد أقدم من بلدكم” -كان بلده قد أعترف به وجوديا منتصف الأربعينات- فضحك وسكت.
لا أدري لماذا لم تعاقبني أمي وهي تراني أضع السيكارة في فمي؟ هل مسموح لنا في هذا اليوم أن نمارس كل الممنوعات، لأن “على الدنيا بعدك العفا” يا أبا عبد الله؟ ربما.
عندما كبرنا، وعشنا في عراق كربلاء، مرت علينا “كربلا آت” عظيمة، بالنسبة لأبناء جيلي، الحرب العراقية الإيرانية، غزو الكويت، والحصار الاقتصادي، كنّا نشاهد في نسائنا حزن زينب، وفي أطفالنا، جرح عبد الله الرضيع، يموتون في مستشفيات عاجزة على أن تكون أكثر من غرف بأسرة، هي توابيت متنكرة، لأطفال السرطان واليأس، وصار كل واحد منّا، حسينا، يحمل على كاهله، صليب مسؤولية عائلة منكوبة في “كرب وبلاء” العيش في هذا البلد، البلد الذي دعت عليه عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، زوجة الحسين، عندما قالت بعد مقتله:
وا حسينا! فلا نسيت حسينا أقصدته أسنّة الأعـــــــــــداء
غادروه بكربــــــــلاء صريعــــا لا سقى الغيث بعده كربلاء
ولم يسقنا بعده الغيث يا عاتكة، فنحن نبكي جفاف العراق مذ أن لَعنت “عشتار” ربّة الجمال، حبيبها “تموز” ربُّ العطاء والنماء، عندما تغضب عليه كل عام، ستة أشهر، فترسله الى عالم الموت، في فصلي الخريف والشتاء، ونبكي صاحبنا العراق، كما بكى السيد الوالد “كلكامش” وهو يحتضن جثمان “خلّه وصاحبه ” أنكيدو” هذا العظيم الذي قتل الوحش “خمبابا” الذي هو جوعنا التاريخي، والجوع هنا لا بمعنى الجوع العادي، بل بمعنى الحسرة، وكم مرت بنا من حسرات، ونبكي الحياة مذ قتل فيها “علي” المنذور للولادة في بيت الله والموت فيه، ومذ متنا نحن الأبرياء آلاف المرات، متنقلين من موت الى آخر، تحت اسم الفتوحات البربرية والمغولية، وصولا الى الحملات الصفوية والعثمانية، ثم الإنكليزية، فدوريات الضباط الانقلابيون، ينقلبون على أعمارنا ببساطيلهم ونياشين خياناتهم الى هتلر وتشرتشل وغيرهما من فرسان الفتوحات الحديثة، التي أوصلت العراق الى هذا المآل الحزين، حتى صرت أصدق أن في العراق، كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء، لا بالمفهوم التاريخي -فمعروف عني كرهي للتاريخ- الذي كتب في أحضان السلاطين وأفخاذ الجواري المسبيات من بلاد الجميلات، بل من مفهوم وجودي، نعم، أفهم الحسين هكذا، كل واحد منّا حسين، كل واحدة منكن زينب، وكل طفل فينا، رضيع لم يبلغ فطام المراهقة والعشق شيئا، حتى يشيب قلبه قبل شواربه.
نعم نحن سبايا كربلاء عبر التاريخ وسنبقى، ويبقى الحسين خالدا في وجودنا، وفي معاناتنا.
عظم الله الأجر في أنفسكم وأنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
*الصورة عام 2010 في مقبرة السيدة زينب في سوريا وخلفي ضريح المفكر الإسلامي “علي شريعتي” الذي اغتيل في لندن باثنين وأربعين رصاصة -بقدر سنوات عمره- لأنه أفضل من فهم الحسين.

(Visited 27 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *