فهد توفيق الهندال – ناقد كويتي
في روايته ( فهرس ) يقدم الروائي العراقي والمقيم في أمريكا سنان أنطون على تجربة جديدة في السرد ، حيث غربة بطله (نمير البغدادي) الذي يعيش في نيوهامبشير / أمريكا منذ عام 1993 ، تصله رسائل من أحد معارفه في العراق ( ودود عبدالكريم ) ، بهدف ترجمتها ونشرها هناك في نيويورك بعد زيارة خاطفة لنمير لبغداد مع فريق تصوير فرنسي جاء معهم كمترجم ، فصنّف ودود كل رسالة منه لنمير بمنطق ما ، فجاءت جميعها مناطق في سرد عن المكان وشخصياته في شكل مخطوط يشي بلغة فصيحة أقرب لبعض كتب التراث العربي ، يتلقاها نمير ويقابل بينها وحياته في أمريكا . واللغة في الرواية أداة أنطون الرئيسية في بث الحياة في قوالب لغوية قديمة عبر مناطق ( ودود ) ، ليكون عينه اللغوية في المكان الأول ، وما حملته من محكيات شعبية . إضافة لبراعة أنطون في لغة الوصف والحوار . وهنا يصف ويسرد حال بغداد في زيارته الخاطفة :
” بغداد ماتزال تتثاءب بتعب . معظم محلاتها مغمة الأعين . بعض المارة يمشون على الأرصفة ، لكن الشوارع شبه فارغة . تمر بنا سيارة بين حين وآخر . والدبابات والمدرعات الأمريكية جاثمة في التقاطعات . لمحت عبارة US Army Go Home مكتوبة بصبغ أحمر على أحد الجدران . انا الذي سيعود إلى البلد الذي جاء منه ال ” يو اس آرمي ” ويبدو أنه سيبقى . اعود إلى البلد الذي لم يصبح “هوم” حتى بعد عقد كامل . كنت قد قرأت عبارات الشكر للأمريكان على جدران أخرى أحزنتني . أردت أن أرى دجلة وأودعه . لا أعرف متى سأعود ثانية ، او إن كنت سأعود هنا . كم بدا دجلة شاحبا في هذه الزيارة . لم يعد يشبه صورته في ذاكرتي . لكن هل ظل شيء هنا يشبه صورته في ذاكرتي ؟ لا شيء نجح في الهروب من الشحوب . ”
تستمر الرواية في سرد ماضي منطق “ودود ” وسط مقابل حاضر “نمير” وهو يستدعي ثقافته عبر شخصيات المكان الثاني ، كمشرف أطروحته للدكتوراه والذي يحب الأدب العربي القديم وله معرفة موسوعية باللغات السامية واحد محرري موسوعة الإسلام الضخمة ، وعاش فترة من الوقت في القاهرة وبيروت ، لهذا هناك لغة مشتركة بين الاثنين حول المكان الأول وتاريخه .
” كنت أظن أنني مخضرم لأنني قضيت عقدا بأكمله في أمريكا . اما هو فجاء في نهايات الخمسينيات ، أي أنه من المعمّرين . كنت أشعر حين ازوره وأحادثه أنني أزور العراق ، لا لأنه لا يندمج بالمجتمع الأمريكي وثقافته ، بالعكس ، فقد فعل ذلك بنجاح . ولكن ربما لأن الحديث دائما يأخذنا إلى العراق وأوجاعه ومسرّاته وأغانيه . ”
ويسرد نمير جابنا من حياته الخاصة هناك في أمريكا ، وخلافه المستمر مع صديقته ربيكا ، خاصة فيما تعلّق بالعراق ، لكونها تراه أمرا أصبح في الماضي ولايمكن استعادته ، وهو ما يتضح في الحوارات التي جمعتهما ، فتميل ربيكا نحو الحاضر والغد ، ونمير متشظيا بين الماضي الذي تمثله رسائل (مناطق ) ودود وحاضره كأستاذ جامعي يعمل على أطروحة الدكتوراه .
” أخذت أشعر بالارهاق من الجدالات المتكررة التي تستنزفني نفسيا . أحزنني رد فعلها ، بغض النظر عن نواياها ، ولم تعجبني نبرتها . وأدركت أننا أخذنا نفترث فعليا وأن البعد الجغرافي أخذ يترجم إلى بعد عاطفي أيضا . ”
ليدخل في جو الدراسة الجامعية كأستاذ للعربية للطلبة غير الناطقين به ، حتى يفاجأ بالطالب ” تيم ” يطلب منه أن يعلمه أفعال الأمر ، على غرار ( اركع ! قف! ارفع يديك! ارجع إلى الوراء ! ) ليسخدمها كعسكري يخدم الجيش الأمريكي في العراق أو أفغانستان ، لكونه يدرس على نفقة وزارة الدفاع ، الأمر الذيث حدا بنمير أستاذ مادة اللغة العربية بالرفض ولو كانت ضمن المنهج .
فيكون الموقف انتصارا للغة على أخرى ، انتصار فعل الحاضر والمستقبل لا الماضي والأمر .
بعد ذلك يسرد علاقته بمرايا التي بدأت بعد فضول منها حول خط مخطوط (فهرس) هل هو فارسي ، وبعدما عرفت من نمير أنه سألته إن كانت العربية لغته ؟ فيكون مدخل العلاقة بينهما اللغة أيضا :
” هل هي لغتك ” ؟
كان سؤالها بسيطا، لكنه في تلك اللحظة اكتسب عمقا لم أكن قد أدركته . هل هي لغتي ؟ تعودنا أن نقول “لغتي الأم” أو “لغتي الأولى” لكن “لغتي” ؟ أنا ؟ لم أشأ أن أتفلسف أو أن أبدو أكاديميا أكثر من اللازم ، فأجبت ، رغم شكي بإمكانية أن تكون أي لغة ، كما أتخيّلها كونا بأكمله ، مُلكا لفرد واحد “نعم” ” .
إذن جمعت اللغة بين (نمير) و (مرايا) التي كانت فعلا مرايا يطل عليها نمير على ماضيه، حاضره، مستقبله ، خارجه ، داخله ، ذاته والآخر معا . وهي لا تقل عنه اختلافا عن المكان وتعيش تشظيا ذاتيا بين أم منفصلة عن أب تكتشف أنه ليس أباها البيولوجي . وكأن نمير بات هو الآخر مرايا لمرايا ، تعيد معه مشاهدة ماضيها .
ومع استمرار العلاقة بينهما ، عرفت كيف تمرر أصابعها برفق على جراح نمير ، وتتعرف على تضاريس روحه ، كما تعرف هو على ندوب ماضيها كما هو جسدها وبات يؤمن مثلها بأنه على المرء أن يصل إلى سلام مع ماضيه ، لتطلب منه تعلميها اللغة العربية ، لتفهم ما يقوله نمير في نومه ( لاوعيه ) كما هو صحوه ووعيه ، وتتعرف عليه أكثر من خلال لغته ، فقد تعيش معه أحلامه وكوابيسه .
ليجد نمير في المكان الثاني ، المهجر ، معادله الذاتي في شخصياته ، كحبه التنزّه في الحي الصيني بكل ثقافته وفنونه ، ليكون موازيا لحنينه لشرقيته الروحية ، فكلاهما من ذات الشرق الذي برغم اختلاف الجنس واللغة ، يجمعهما ما هو أعمق :
” ليس من الضروري أن أعرف اللغة كي افهم المفردات . فهي ذات المفردات في كل اللغات . الحبال الممتدة بين اللذة و بين الألم والتي نمشي عليها جميعا . ندوخ ونسقط أحيانا لكننا نعاود المشي . المفردات التي تعرفها الأوتار المصلوبة في كل آلة على تقاطع الحزن والفرح . أوجاع الحنين إلى زمان ومكان آخر . الحسرة على المسافات الشاسعة بين الأشياء وبين البشر . المسافات الشاسعة بين كل شيء و.. لا شيء . ”
اللا شيء يحتوينا نحن الشيء ، يحتوينا كمفردات في لغة غير مفهومة أو فقدت ذاكرة المعنى ، مهما استجمعنا أصوات الحروف ، وميّزناها جهرا و همسا ، إلا أن الذات لا تعرف لغة سوى الهمس بها ، فهو خروج الهواء نقيا دون صوت ، كما هو الحزن الذي لا يُعرف له معنى واحدا له سوى الألم .
” سمعتني مرايا ذات يوم أغنيّ “غريبة من بعد عينج يا يمه ، محتارة بزماني ، ياهو اليرحم بحالي لو دهري رماني ؟” فسألتني ” ما هذا؟ ” فقلت لها ” أغنية بلوز عراقية . ” طلبت مني أن أترجم الكلمات فبدأت افكر بالترجمة ثم قلت لها “أتعرفين. هناك أحزان لا تُترجم ” .