أوراق من الذاكرة / العربنچي  .. صاحب خوام

أوراق من الذاكرة / العربنچي .. صاحب خوام

العربنچي

صاحب خوام – كاتب عراقي

 

كان يجلس على الكرسي القديم ذي الظهر المنزوع، نظّارته التي جلست فوق حاجبيه على الجبين ودفتر أسماء المواطنين الذين يستلمون من وكالته حصة الطحين وملابسه ورموش عينيه كلّها مُضمّخة بغبار الطحين فيما كان عامليه الاثنين منهمكين في وزن الطحين للناس المزدحمين والمتكدسين داخل المحل وخارجه فهذا هو اليوم الاول بل الساعات الاولى لتوزيع وجبة هذا الشهر، كان الغروب قد حل واختفت الحُمرة عن جدار المحل الشرقي فاكتست الجدران دكنةً لم يكشفها ضوء المصباح الوحيد المتدلي بسلك وسط السقف حين اقتحم الرفاق المحل بوجوه متجهمة عابسة تتقدمهم كروشهم الهادلةُ على النطاق الزيتوني، جولة تفتيشية، بلا تحية، توجهوا نحوَ المرأة التي كانت قد اكملت للتو استلام حصتها وسألوها ؛
– كم استلمتِ طحين ؟
ابتعدتْ عنهم بشكل لاإرادي ثم قالت بصوت مرتجف
– هذا الكيس ٥٠ كيلو، إحنا سبع نفرات، ثم تغير لحن صوتها الى شكوى أخذ مني خمسميه والله
– لماذا خمسمية ؟
انبرى احد الزبائن يقول للمرأة عندما شاهد فزعها منهم؛
– أُمي على كيفك، إحكي الانصاف ولاتخافين
استدار له الرفيق الثاني وأمسك بردن سترته عند الساعد وقال ؛ ليش تتدخل لكْ، ومنين تخاف شنهو إحنا نخوّف؟
كان قد نهض واقفاً عندما دخل الرفاق ونزلت نظّارته امام عينيه وبيده سجله وقلمه، تكلم بصوت مرتفع كي يحسم ماحصل ويدفع عن هذا الزبون المسكين؛
– أنا أخذتُ منها خمسمائة لانها اشترت كيلو تجاري
– أنت الوكيل ؟
– انا اقوم مقامه
– من اين لك التجاري وتبيعها كيلو تجاري ؟
– حصة الوكيل اثنان بالمائة عندي ستة اكياس حصتي ابيعها بسعر السوق التجاري ..
تفاجأ الرفيق، لم يكن يدري بهذه المعلومة، مسحَ شاربه الكث اللاصف رغم خفوت الضوء ثم أردف ؛
– لايحق لك ان تبيع التجاري في الوكالة، خذها خارجاً وبعها هناك
– نعم حاضر
ماكان يريد ان يجادلهم كي لايُهان ولايبيت تلك الليلة في الفرقة الحزبية .تحسّسوا مسدساتهم وإستداروا خارجين وسط زخم الناس والعربات اليدوية والسيارات وحلقات النسوة الجالسات على تراب الرصيف بانتظار دورهن ..
في الأيام الاولى لاستلام وجبة الطحين يكون الزحام شديداً ثم يتناقص بالتدريج فيكون وقت الصباح خالياً تقريباً من الزبائن لذلك كان يأخذ معه كتبه واوراقه فيستغل وقته بالمطالعة وإكمال بحثه الذي شغُف به وما فتيء يعمل عليه منذ تخرجه من الجامعة قبل مايزيد على سبع سنوات مُنتظراً أن تتاح فرصة فيُنزِلُ ماحوت اوراقه الى الأرض، كان يعمل في مجال اختصاصه مدة طويلة حتى ألقى الحصار بجرانه وبان ثقله فاضطر كسائر أقرانه الى ترك الاختصاص الذي كسَدَ والعمل باعمال اخرى فعمل في وكالة الطحين التي لم تكن تأخذ من وقته أكثر من اسبوع في الشهر وأستغل الكثير من وقته الباقي في العمل بسيارته التكسي البرازيلي بعد ان اصلح بطاّريتها واشترى لها زوج اطارات مستعمل بعد ان اخبره السيد ان الاستخارة جيدة فاطمأن الى ان ماوفّره من جهد الاشهر الماضية لن يضيع في شراء الاطارات ..
فيما كان يشتغل على بحثه يقرأ أو يكتب كان يجلس الى جانبه على الارض (حميّد الحمّال) بدشداشته التي تحمل عددا لابأس به من الرقع والثقوب، شاب فقير يسترزق بحمل اكياس الطحين الى عربات الزبائن ، كان حميّد كثير الحديث وحينما يتكلم يدير وجهه ناحية اليمين وترّف عينه اليمنى بشدة حتى يُنهي حديثه، سأله ذات يوم شديد الحر حمَلَ فيه حُميّد من أكياس الطحين ماأنهكهُ وهدّ قواه
-لماذا لاتشتري عربانه دفع تريح بها نفسك وتربح اكثر، كعادته فَرَكَ حميّد رأسه لليمين ورفّت عينه بشدة وقال ؛
– من وين اشتري عربانه ؟ من گملي ؟ من فگري؟
– على ساعه ربك يفرجها
– وين الله ويفرجها ويرزقني واشتري عربانه ام المطي !
أسرّ الضحكة في داخله ولم يبدها له، المسكين صرّح عن اعلى طموح له في الحياة ..
اختفى حميّد لفترة طويلة، وفي ضُحى يوم مشمس بينما كان يجلس في المحل يدبّج بحثه على الورق شاهد حميّد يمتطي عربة خشبية تمر سريعاً في الشارع أمامه وقد أمسك بلجام الحمار الذي يجرها، كان يتصرّف بتعالٍ واضح، لم يلقِ التحية وإنما اكتفى بأن فركَ رأسه يميناً ناحية المحل ورفّت عينه اليمنى كالعادة رفيفاً شديداً واختفى عن الانظار، مرحى تحققت أُمنية حُميّد وأصبح عربنچي بجدارة ..
زال الحصار واختفى الزيتوني وملحقاته من شوارب برّاقة وسلوك وضيع وبدأت أيام جديدة كانت الآمال فيها كبيرة ومرّت سنين فحمل صاحبنا بحثه الذي جهَزَ وأصبحَ غنياً قابلاً للتنفيذ وذهب به الى المؤسسة التشريعية في مدينته، كانت البوابة الخارجية مغلقة وزحام شديد من الخريجين العاطلين يعج به المكان، منعه الشرطي من الدخول ولكنه اخذ بطاقته ليستأذن له بالدخول من المسؤول الذي صادف وصوله بتلك اللحظة الى البوابة مستقلاً سيارته الفخمة، مسترخياً في المقعد الخلفي، أنزَل المسؤول زجاج سيارته المظلل الى النصف واستلم البطاقة من الشرطي، نظرَ فيها ثم فَرَكَ رأسه الى اليمين ورفّت عينه اليمنى بشدّة وقال يسمح له بالدخول ..

(Visited 35 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *