في الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل الجواهري
[[ لقطات من زيارته لجامعة الموصل ]] ⁽¹⁾
كتب د. عبـد الرضـا عليّ
1– حينَ عرضتْ جامعةُ الموصل على ثالث النهرين ضيافته، ليفتتحَ موسمها الثقافي لسنة 1980م، اشترطَ أنْ يصحبه في الزيارة صديقاه الحميمان : الدكتور مهدي المخزومي، والدكتور عليّ جواد الطاهر (رحمهم الله)، فما كان من رئيسِ الجامعة المرحوم الدكتور محمّد مجيد السعيد(آنذاك) إلاَّ أنْ يُبادرَ بتكليفِ زميلي الدكتور سعيد جاسم الزبيدي بالاتصالِ بهم، وتحديدِ موعدِ الزيارةِ، ومرافقتهم في الرحلةِ من بغداد إلى الموصلِ.
لكنَّ سعيداً الزبيديَّ لم يوفقْ في إصعادِهم الطائرة في اليومِ المحدّدِ للسفرِ إلى نينوى، فقد أُلغيتِ الرحلةُ، فهاتف رئيس الجامعة، وطلبَ موافقتهَ في نقلهم بالسيّارات إلى الموصل، فأرسلَ السيِّد رئيس الجامعة سيّارتين إلى بغداد، كانت الأولى سيّارته، وكانت الثانية سيّارة نائب رئيس الجامعة.
2- كانت حفاوة استقبال الجواهري وصديقيه حفاوة لم تعرفها الموصل،وقد تجلّت حرارتها حين خرج رئيس الجامعة ونوّابه وبعض أساتذة الجامعة إلى الطريق المؤدّي إلى بغداد، وانتظروه على مبعدة ثلاثين كيلومتراً، فكان لذلك الاستقبال الوقع الحسن في نفس الجواهري، وصديقيهِ الطاهر والمخزومي، وبعد أن رحبوا بقدومه ساروابسيّاراتهم خلف سيّارته التي أقلت معه صاحبيه قاصدين المركز الثقافي لجامعة الموصل حيث سيقيم هو وصديقاه.
3- أقيمت الأمسية في قاعة المركز الثقافي على الرابية المطلّة على نينوى مساء يوم 20/2/1980م وأدارها الدكتور طارق الجنابي رئيس قسم اللغة العربيّة في كليّة التربية،وبعد كلمته الترحيبيّة ألقى الدكتور أحمد الحسّو الأمين العام لمكتبات الجامعة كلمة جامعة الموصل،ثمّ تقدّم الأستاذ سعيد جاسم الزبيدي فأسمع الجواهري والحضورقصيدته التي كانت بعنوان ((يعزُّ كلُّ مكانٍ أنت نازله)) مرحباً بزيارة الجواهري بلغت أربعة ً وثلاثين بيتاً، منها هذه الأبيات على غير توالٍ:
أطلقْ جناحَ القوافي أيُّها الغـــردُ
فما يشــنِّفُ آذانَ الـورى أحـدُ
***
فكم نثرتَ القوافـي فـي مسـامعِنا
كما تناثـرَ فوقَ الروضــةِ الـبردُ
***
وكنتَ في شفةِ المكدودِ أغنــــية ً
تظــلُّ مـنها (ولاة الأمر) ترتعـدُ
***
وأنتَ يا وارثَ الفصحى ومــا حملتْ
حضارةٌ ،عن بنيها يؤثرُ الــــسندُ
***
يكفيكَ أنّكَ في الميدانِ فارسُـــــهُ
(يا ابن الفراتينِ قـد أصغـى لكَ البلدُ)
ثمّ تقدّم العلاّمة الدكتور عليّ جواد الطاهر فألقى بحثه الموسوم بـ((هو الجواهري)) وكان بحثاً رصيناً مرَّ على تاريخ الجواهري الإبداعي ومواقفه النضاليّة،وما كان له في عواصم الدنيا من صور، وحين انتهى الطاهر أدرك المخزومي أنّ بحثه الموسوم بـ” في لغة الجواهري” سيأخذ وقتاً من الناس المتشوّقين لسماع الجواهري،فارتأى أن يتنازل عن الزمن المخصّص للمحاضرة لأبي فرات،وسلّم بحثه لإدارة الأمسية،فنهض الجواهري إلى المنصّة مستهلاً قراءته بكلمة شكر للجامعة ورئيسها والحاضرين ولصديقيه الطاهر والمخزومي،وممّا جاء فيها : [[ سبق لي أن قلتُ: لقد أكلت القوافي لساني ولم تتركْ منه شيئاً لغير الشعر…جئتُ ، وفي الطريق قلتُ: يجب أن أقدّمَ شيئاً للموصل العظيمة ، لأبناء الموصل، لشباب الموصل، وكنتُ بين لحظة ، وأخرى أسجّلُ كلمة ً…وهذه هي المسوّدة، وأنا أعدكم – إن شاء الله – قريباً ستكون لديكم كاملة ]] ثمّ أنشد أولاً قصيدة “أمّ الربيعين” التي كان قد كتبها على حواشي ورقة عاديّة بحجم الكفِّ كان يحملها معه في السيّارة ،ومنها:
أمّ الربيعينِ يا من فُقتِ حُسنَهما
بثالثٍ من شبابٍ مشرق ٍ خضلِ
***
4- وحين وصل إلى قولهِ :
ويا محطَّ المُـنى فـي كلِّ مأزمةٍ
ويا مِجنَّ الحِمى في الحادثِ الجلَلِ
***
عهدٌ بأنْ سأصونُ العهدَ في قفصٍ
من الضلوعِ، وفي زاهٍ من الحُلَلِ
***
ويا عطوفـينَ لمَّتـني شمائلُهمْ
كمـا يلِمُّ الكميُّ السـيفَ من فَلَلِ
***
شوقاً إليكمْ مدى عمْرٍ تجيشُ بهِ
شتَّى الدواعي وما زالتْ ولمْ يَزَلِ
***
توهَّـجتْ وهْوَ في مُزْبَدِّ عارِمِهِ
وتغتلي فيهِ، وهْوَ اليومَ في وشلِ
***
شوقاً أمِنتُ جَناني أنْ يَزِلَّ بـهِ
وقد يزِلُّ الفتى خوفاً من الزَّلَـلِ
***
شوقاً تعثَّرَ بي في زحمةِ الخجلِ
ألاَّ أُطيقَ لهُ وصفاً على عجَـلِ
ضجَّتِ القاعةُ بالتصفيقِ المرتفعِ ارتياحاً، وإعجاباً، وتكريماً للشاعر.
ثمَّ بدأ بقراءةِ مختاراتهِ التي أعدَّها في قصاصاتٍ لا يستطيع أحدٌ غيره قراءتها، لأنَّه يكتبُ أحياناً مفردةً واحدةً من صدر البيت، ومثلها من عجزه، وأحياناً مطلع الصدر برمَّتهِ، وأحياناً المفردة الأولى من العجز،وأحياناً قليلةً جدَّاً يكتبُ البيتَ كاملاً، وسيرى القارئ الكريم أُنموذجاً من خطِّ الجواهري، وكتابتِه مع هذه اللقطات.
ثمَّ تبعَها بقراءة:( يادجلة الخير)، و(لغز الحياة)، و(ليلة عاصفة على فارنا)، و(صرفتُ عيني)، و(وحي الموقد)، و(أرحْ ركابَك)، و(أزفَ الموعدُ)، و(يا أمَّ عوف)، و(رسالة مُملّحة.)
5– استمرّت الزيارة ثلاثة أيّام من 20 شباط حتّى 22 منه،زار خلالها أماكن عديدة، وحين كان يحسُّ بالتعب كنّا نذهب به إلى ((مقهى القمّة)) وهي على رابية جميلة تطلُّ على شارع الموكب الذي تقام فيه احتفالات الربيع سنويّاً،كي يتناول القهوة،ويدخّن سيجارة،أو سيجارتين من العلبة التي يحرصُ على حملها، ثمَّ نعاودُ معه الانطلاق.
6– في أثناء مرافقتنا له في تجواله (الأستاذ سعيد الزبيدي وكاتب هذه السطور) تولّدت لدينا فكرة إعداد كتاب عن الزيارة،وما سيدورُ فيها، فعرضنا الفكرة على رئيس الجامعة، فاستحسنها، ووعد بدعم الجامعة للكتاب ولنا، فوضعنا خطّة الإعداد قبل سفر الجواهري وصديقيه، وعرضناها في اليوم نفسه على أستاذنا الطاهر،وكانت من بابينِ اثنين، فاقترح إضافة بابٍ ثالث يخصّص لشعر الجواهري غير المنشور، وحين أعلمناه بصعوبة تحقيق ذلك لعدم امتلاكنا لتلك القصائد، وعَدَنا أنّه سيزوّدنا بها لكونه والمخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي والسيّد رشيد بكتاش يملكونها بوصفهم مكلّفين من وزارة الإعلام بتحقيق ديوان الجواهري، والإشراف عليه.
7– بعد زيارة الجواهري لأروقة الجامعة،والمعرض التشكيلي مرَّ أمام الأقسام الداخليّة لطالبات الجامعة، فاحتشدنَ خلف النوافذ، وأومأنَ له بأيديهنَّ ملوّحات محييات، وكان هو يرفع يده، ويردُّ عليهنَّ، فداعبه الأستاذ سعيد الزبيدي قائلاً : لكأنَّ عمر بن أبي ربيعة ينظرُ إليكَ عبر العصور بقولهِ [[ ورقَّعنَ الكوى بالمحاجرِ ]] فردَّ الجواهري قائلاً : [[ أينَ هو ليرى ما لم يرَ ؟!.]]
8– حين تجوَّل الجواهري بسوق النجفي (في أيمن الموصل) تحلَّق الناسُ حوله بين مسلّمٍ، وداعٍ له بطول العمر، وراغبٍ في أخذ صورة معه، فتقدّمت من المتحلّقينَ حوله سيّدةٌ خمسينيَّة ترتدي عباءةً سوداء صائحة بلهجةٍ شعبيّة : [[ وخروا رجاءً، أريد أسلّم على الجوهري – هكذا لفظتها- ]] وحين فسحوا لها المجال سلَّمت عليه، وغمرته بسيلٍ من الأدعية، و صافحته مقبلةً، فترقرقت عيناه بالدموع، وقطع جولته، وأشار إلينا أن نسرع به إلى السيّارة من شدَّةِ تأثّره، وطلب أن نعيده إلى مكان إقامته في المركز الثقافي.
9– وبعد انتهاءِ الزيارةِ مباشرةً شرعنا بإعدادِ الكتاب، وتوزَّعتْ موادُّهُ في ثلاثةِ أبوابٍ، بعد المقدّمةِ، ولقطات من الزيارة هي:
الباب الأوّل : احتوى على ما قيلَ في الأمسيةِ من كلمات، وشعر، ودراسات ، وتعليقات.
الباب الثاني : احتوى على قصيدة ( أمّ الربيعين) وما قرأ الجواهري من مختاراته الشعريَّة، وهي :(يا دجلة الخير)، و(لغز الحياة)، و(ليلة عاصفة على فارنا)، و(صرفتُ عيني)، و (وحي الموقد) ، و(أرحْ ركابكَ)، و(أزفً الموعدُ) ، و(يا أُمَّ عوف) ، و(رسالة مُملَّحة).
الباب الثالث : لمَّا يُنشرْ في ديوان، وهي تلك القصائد التي لم يحوِها (حتى ذلك الحين) أيُّ ديوانٍ مطبوع ، وكانت :
(رسالة إلى محمَّد علي كلاي)، و(آهٍ على تلكمُ السنينِ) و(لُغةُ الثياب) و(سجا البحر) و( فتى الفتيان..المتنبِّي) و(محمَّد البكر)،(وتغنَّ بـ تمُّوز) و(إلى المجد) و(دمشق) و(فتيان الخليج – المقدِّمة)،و(التحيَّة)،و(فتيان الخليج – القصيدة).
واتفقنا مع مطبعة جامعة الموصل على أن يكونَ ورقُ الكتابِ صقيلاً ملوّناً (آرت 80) ، ويكونَ طبعُهُ عرضيّاً (بالعَرضِ) وليس طوليَّاً.أي يكون كالكرّاسِ، لنستفيدَ من وضعِ لوحاتٍ تخطيطيَّةٍ على بعضِ تلك الصفحاتِ الداخليّةِ العرضيّة.
كما اتفقنا مع الفنّانِ التشكيليِّ المهندس شاهين عليّ ظاهر أنْ يتولَّى هو وضع تخطيطات للجواهري، وزوَّدناهُ بصورٍ عديدةٍ لأبي فراتٍ التُـقِطتْ له في أثناء تلك الزيارة، باستثناء لوحةِ الغلافِ الأول، فقد كانتْ للفنان المرحوم عبد الحميد الحيالي، لكونها لوحةً فنيَّة جميلةً للموصلِ القديمة. أمّا الخطُّ، فقد تولاّهُ الخطَّاط الكبير الأستاذ يوسف ذنون.
10– وصدر الكتابُ كما أردنا، ونفَّذتِ الجامعةُ القسمَ الأوّلَ من العقدِ الذي أبرمتْهُ معنا، فسلَّمتْـنا أربعينَ نسخةً من الكتابِ تقاسمناها ، فضلاً عن المكافأةِ التي كانت ألفِ دينارٍ عراقيٍّ ، فحمل الصكَّ صديقي الأستاذ سعيد الزبيدي، ونزلَ بهِ إلى بغداد، وسلَّمه إلى الجواهري، (لأنَّنا اتفقنا سلفاً أنْ نتنازلَ عن حقِّنا في المكافأةِ لصالحِ أُستاذنا الجواهري)، فما كانَ من الجواهري (كما أخبرني الزبيدي) إلاَّ أن سلَّمه لنجلهِ المرحوم فرات.
11– وبعدَ عشرةِ أيّامٍ من صدورهِ نفدتْ نُسخُنا الأربعون التي زوَّدتنا بها الجامعة، لأنّنا أهديناها لزملائنا الأساتذةِ في قِسمي اللغة العربيّة في جامعة الموصل : ( التربية والآداب) وبعض الأصدقاء خارج الجامعة، وأردنا تنفيذ القسم الثاني من العقد المبرم مع الجامعة ببيعِنا خمسين نسخة من الكتابِ بنصفِ السعر، فصدمنا بخبرٍ اختفاءِ الكتابِ من مخازنِ المطبعةِ، ومن جميع مكتبات الموصل، دونَ أنْ نحظى بالسببِ، وعندما ألحفنا في السؤال قيلَ لنا: لقد مُنع الكتاب من التداول، وتمَّ شحنُه إلى بغداد بأمرٍ منالمهيمنين على الثقافةِ في جمهوريّةِ الخوفِ ومنظّمتِهاالسريّة، فبقينا حيارى ، لكنّ صديقنا المرحوم(( سامي محمَّد))الذي كان يعمل مترجماً بمجلَّةِ ألف باء ضمن وزارة الثقافة والإعلام ببغداد همس بأُذني حين زرتُه في مقرِّ الوزارة قائلاً: كان ذلك بسبب نشركما لقصيدة أزعجت المنظّمة السريّة، لما تثيره من تأويلات بشأنِ حادثةٍ معيَّنة، فكان ظنُّ الجميع أنَّها قصيدة الجواهري في رثاء محمّد البكر( والله أعلم) ، علماً أنَّ القصيدة حتى ذلك الحين لم يضمَّها ديوان، مع كونها قد نُشِرتْ في جريدة الجمهورية ، العدد 3231 ، الأربعاء 29 آذار 1978م ، عندما كان والدهُ أحمد حسن البكر ما يزال رئيساً لجمهوريَّة العراق.
ــــــــــــــــــــ
(1) يُنظر كتابنا المشترك : (الجواهري في جامعة الموصل،كلمات ومختارات) الصفحات: 4-8، وكتابنا : ( عودة القرين إلى بلاد اللاأين): 52، وما بعدها.