حامد المالكي
عندما تعيش في مجتمع متخلف، فعليك قبول واحد من المصيرين، إما أن تتخلف معه، أو تهمِّش نفسك، وتنزوي، حتى تموت قهرا، وأنت ترى آخر قلاع مجدك تتهدم، تحت أقدام المتخلفين.
لا تحدثني عن رأي طوباوي يدعى “مقاومة التخلف” فهذا لا يمكن لفرد أن يحقق النصر فيه، دون إرادة حقيقية من سلطات القوانين والتعليم والإعلام الموجه لقيادة هذه المقاومة، كيف الحال إذا وصل المتخلفون الى هذه السلطات، بل الى الأعلى منها، هنا تصبح مقاومة التخلف نوعا من جنون شريف، يودي بك الى غياهب السجون أو محشورا داخل غلاف رصاصة كاتمة للصوت والحياة.
للتخلف القدرة على الانشطار، أسرع من انشطار التقدم، ذلك لأن الأخير أصعب من الأول، فالارتقاء يحتاج الى العلم والمعرفة، والعيش بسلام مع النفس ومع الآخر، حتى المختلف عنك، بينما التخلف لا يحتاج سوى بعض القداسات المهلهلة، مع قدر من أميّة و”بلطجة” ليبرز ويزدهر وينشطر ملايين المرات، فما أكثر هذه المقدسات التي عندنا، وما أفظع من أميّة مجتمعاتنا العربية، وما أكثر من البلطجية الذين يعيشون بيننا؟
عكس الارتقاء الهادئ، فإن سلطة التخلف ضوضائية، تسمع زئيرها في كل وقت، إما على شكل طقوس مقدسة من صنع البشر، أو على شكل انفجار عبوة ناسفة، أو “صلية” رصاص نحو للسماء، بمناسبة أو بلا مناسبة، أو على جدار بيت مطلوب عشائريا، مع الهتاف الذهبي: “وين يروح المطلوب النا؟” هنا عليك أن تعتدل في جلستك، وأنت تشرب فنجان قهوتك على أنغام فيروز وتتنحنح، وتبحث بأصابع مرتبكة في الأنترنيت، عن سفارات الدول التي من الممكن أن تمنحك وعائلتك فيزا، تعبر بها، هذا المحيط الهائل من القمامة، خوف أن تلطمك، موجة غاضبة، فتكفّرك، وتقعدك على عمود أحلامك التي خططت عمرا كاملا من أجل تحقيقها، وأنت تسمع صوت تمزق أحشائك الداخلية والهتاف الماسي هذه المرة: “الله أكبر”.
للتخلف القدرة على بناء التحالفات، لأنه يدرك هشاشته التاريخية، وهذا سر قوته ونموه في مجتمعاتنا العربية، بينما لا يكف الارتقاء، عن التنافس المحموم، الذي يصل حد الحسد والحقد والتكبر، فتحدث القطيعة التاريخية المعروفة بين صنّاع الفكر والتقدم والرقي، لهذا تجد الفلاسفة والكبار من الكتّاب والأدباء والمفكرين، يعيشون أواخر أيام حياتهم في عزلة دامعة – هذا إذا لم ينتحروا مبكرا- يتنفسون الحسرات مع التبغ، ويشربون الندم مع الكحول، على عمر ضيعوه في الصراخ، على مجتمع أخرس، برفقة زملاء تفكير وأحلام، منهم من هرب الى مجتمعات أخرى، وهم الأذكى طبعا، وآخرين يضمرون لك الكراهية المغلفة بورق ابتسامات ملونة، والبقية المحترمة التي ستقول لك: “لا تتعب، أنت تنفخ في وطن مثقوب”.
مرحى للتخلف، لك الازدهار ولنا الاندثار، لك المجد ولنا النسيان، فإن تنسى، هذا أهون المصائر.