د. حسين المناصرة – أكاديمي وناقد فلسطينيي
نعم، إننا أصبحنا في زمن أكثر انفتاحًا وتواصلًا بفعل الانفجار التقني في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، خاصة في زمن جائحة الكوروناالتي قلبت موازين الحياة رأسًا على عقب، وجعلت التباعد المكاني أهم سمة من سمات هذا التحولالاجتماعي، مما يعني أننا أصبحنا مرهونين لكثير من المعرفة التواصلية أمام شاشات الجولات وأجهزة الحاسوب وغيرها.
هذه الظاهرة بحد ذاتها ظاهرة إيجابية، خاصة أنها أسهمت في انتشار ثقافة جديدة، هي سرعة إقامة المؤتمرات والندوات الافتراضية التي تقام عبر منصات زووم وجوجل وغيرها، فبدلًا من الانتقال من مكان إلى مكان للمشاركة في مؤتمر أو ندوة أو محاضرة، صار بإمكاننا أن نوفر كثيرًا من المال، وكثيرًا من الجهد، وكل الوقت تقريبًا، فتقام الفعالية بكل سهولة ويسر، مما نشأ عن ذلك حركية ثقافية إبداعية سلسة، لا يعوقها إلا انقطاع النت أو ضعفه أو عدم خبرة الشخص في هذا المجال التقني،باعتبار الأمية اليوم، ليست أمية القراءة والكتابة فحسب، وإنما هي أمية المعرفة العميقة بتقنيات التواصل الاجتماعي المختلفة.
هذه الثقافة لا أعتقد أنها ثقافة سلبية، وإن كانت تفتقر إلى ما يمكن أن نسميه حميمية العلاقات الوجاهية من جهة، والحاجة إلى الخروج من الأماكن المغلقة في البيوت وأماكن العمل، وإيجاد فرصة حقيقية لحياة معيشية عادية، بدون خوف أو رعب من جوائح وفتن وحروب . ومن ثم فإن هذه الثقافة، ثقافة ما هو عادي ومألوف في الحياة الطبيعية، جعلتنا نشعر بغياب القيمة الحقيقية لإنسانية الإنسان الرعوي مثلاً، أو المتنقل بحرية في الأمكنة التي يعيش فيها، بدون رقيب أو حسيب، أو مبتز انتهازي، أو متنمر مستغول!!
إذن، ما اللعنة التي غدت تستلب ثقافتنا، ومعارفنا، وحياتنا المعيشية في ظل وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؟ هل هي من الوسائل ذاتها، أم من الناس كلهم أو بعضهم، أم من الثقافة والمعرفة نفسها؟! يحتار المتأمل في هذه المسألة، في أي تصور ناشئ عن مقولة :”من أين تؤكل الكتف؟“؛ لأنّ كل الحيثيات تتشارك في تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة اللعنة؟ هذه الثقافة التي لعنت العلم، والمعرفة، والثقافة، وإنسانية الإنسان، وتقاليد الأخلاق والقيم، وروحانية الحياة ومادياتها، إلى درجة “أن الجمل إذا وقع كثرت سكاكينه“، أو على حد قول الشاعر:
تَكاثَرَتْ الظِباءُ على خَراشٍ *** فَما يَدري خَراشُ ما يَصيدُ
فقد تكاثرت لعنات ثقافات الرويبضة،والفاسدين، والانتهازيين، والنصابين، وأصحاب الوجوه الكثيرة (المنافقين)، واشتغل المال الأسود في شراء الذمم، وإحاكة المؤامرات، وتفشي الادعاء،والأكاذيب، وتجارة القيم البالية، وبراغماتياتالخراب، وديماغوجيات التسلط؛ لذلك لا نستغرب أن نجد فاسدًا يرعى مؤسسات الأيتام، وصاحب شهادةمزورة يدير جامعة أو رابطة أكاديمية، ومطرود منالمدرسة أمينًا عامًا لاتحاد علمي جامعي، وصاحب واسطة يكيل شهادات التقدير والاحترام، وجامعي بشهادة بكالوريوس بتقدير مقبول ينادى عليه باسم معالي الأستاذ الدكتور…إلخ!!
وهكذا اختلط الحابل بالنابل، فلا تكاد تعرف الصح من الخطأ، فهل أنت مع الأكاديمي المتقاعد الذي صار لا يفضل أن ينادى بلقب دكتور، أو مع ثقافة اللعنة التي تجد فيها من يحمل شهادة السادس الابتدائي، وهنا أترحم على العالم الجليل العقاد أستاذ الجيل، ويضع على مكتبه لقب دكتور، وصار يفتي في كل شيء، إلى درجة أن يعتقد فيها صاحب شهادة وهمية من نوعية الشهادات التي تباع في البقالات بعشرة قروش، أن شهادته أعظم من شهادة طه حسين؛ لأن طه حسين -رحمه الله- لو عاد إلى الحياة، فإنه لا يتقن وسائل التواصل الاجتماعي.
عندما ننتقد أصحاب ثقافة اللعنة، ونشير إلىفسادهم وإفسادهم، ولأنهم تكاثروا على طريقة الظباء وخراش، وإن كان الأصل أن نقول فيهم ” تكاثرت الضباع”، فالضباع تأكل الجيف وتمارسالترويج لروائحها المنتنة بكل سهولة ويسر….، حينئذ نصبح شتامين، قداحين، ذمامين، محقرين لأشخاصهم، فيتطاولون في رفع القضايا في المحاكم بتهم الجرائم الإلكترونية… هذه هي ثقافة اللعنة التي أوصلتنا إليها فئة الرويبضة وأتباع مسيلمة الكذاب، ومدّعي العلم والمعرفة بشهادات جامعية مزورة، أو مجرد أوراق تزور ببضعة قروش!!
ثقافة اللعنة تعني أن تكذب، ثم تكذب، ثم تكذب،وتحول كذباتك ” المكرسحة” من سم الخياط إلىجمل هائج، وتسعى من خلال هذه الأكاذيبوالادعاءات إلى الترويج لنفسك بأنك صاحب حق، وأنك مسؤول، وأنك تستحق أن تكون في درجة دكتور حتى لو كنت لا تملك من العلم إلا فك الحروف،والقراءة والكتابة بأسلوب رديء. هذه الثقافة صار يسعى إليها كثيرون، خاصة ممن يعتقدون أن كل شيء في الحياة يمكن شراؤه بالمال أو الواسطة المتنفذة، أو الفهلوة والنصب بملابس مكوية جيدًا، ومغرقة بالروائح الزكية، فوق جلود غدت أسمك من جلود التماسيح، صار شعارها :” إذا لم تستح فافعل ما شئت”، وهم بالنسبة إلى كثير من الآخرين الذين لا يعرفونهم، ينطبق عليهم المثل الدارج :” الذي يعرف يعرف، والذي لا يعرف يقول كف عدس”!!
صار الكذب من أهم سمات مثقفي ثقافة اللعنة، وعلماء الرويبضة، وصارت ثقافتنا مع هؤلاء ثقافة ” الطاسة ضايعة“، فالمثقف الحقيقي، والعالم الحقيقي، يفضل الحياد والتنحي عندما ينظر إلى اللوحة فيجدها قاتمة، ومظلمة، ولا فائدة من إصلاحها!!
هل ننتظر يومًا تجهض فيه ثقافة اللعنة في حياتنا، وحينها قد نقول: ” جنت على نفسها براقش”!!