ناطق خلوصي
تنفتح ذاكرة الدكتور جمال العتابي المفعمة بالوعي ، على آفاق الماضي القريب ، فتنثال صور المدن أو القصبات التي عاش فيها أو ألفها في طفولته وصباه وشرخ شبابه الأول ، قبل ان ينتقل إلى عالم بغداد الرحب ، تنثال في أكثر من أربعين فصلاً قصيراً (مقالاً ) ، تغطي 232 صفحة من كتابه ” داخل المكمان ــ المدن روح ومعنى ” الذي صدر مؤخراً .
يقول الدكتور أحمد الزبيدي في تقديمه للكتاب : ” حين تكون الذاكرة ،المرتبطة بالمكان ، معتملة في خوالج المثقف ، تلجأ إلى الكتابة ، فهي عنده ليست أمراً ثانوياً ، بل جزء ضروري للكلام والمعنى .. لا يوجد معنى خالٍ من الكتابة . لا شيء خارج الكتابة . ” يتوزع الكتاب على ثلاثة أقسام يكرّس الأول منها للحديث عن المدن الأولى التي عرفها العتابي ، وللمدن الأولى سحرها الخاص على الرغم من مرارة العيش فيها بسبب طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك. لقد تركت هذه المدن الصغيرة أو القصيات ، بصماتها على وعي الكاتب وذاكرته معاً مثلما خلّفت سحرها في روحه أيضاً. يستهل هذا القسم بـ ” الغازية تتكلم روسي ” ، والغازية هي واحدة من مدن الغراف الصغيرة شأنها في ذلك شأن المدن أو القصبات الصغيرة الأخرى التي ألفها الكاتب وقدّم من خلالها صوراً للواقع الاجتماعي الذي كان سائداً في ريف الجنوب آنذاك ، بأسمائها الأولى التي غيرتها ثورة 14 تموزفيما بعد : “الغازية “االتي أصبح اسمها ” النصر ” ، و”سويج شجر” التي أصبح اسمها ” الفجر ” ويشير الكتاب إلى أسماء أماكن كانت سائدة آنذاك : “أم التبن ” و”محيرجة “و”الكرادي” و”سويج شكبان ” وغيرها . ويتحدث العتابي عن ” الشطرة ” وكأنها كانت العاصمة بين تلك المدن والقصبات فيقول : ” لا الذكريات خبت ولا النسيان أدركني ، والشطرة تعيد تأثيث ذاكرتي من جديد، فعند عتباتها تتوقف الخطى ” ( ص 31 ) ، فالشطرة ، على حد قول الكاتب ،و بـ ” مكتبة الغراف ” فيها ، فتحت نافذة وعيه الثقافي ويعترف بفضلها عليه وعلى غيره من الذين أصبحوا على تماس مع الثقافة آنذاك .
ويكرّس العتابي القسم الثاني من كتابه للحديث عن ” مدينة الحرية ” المجاورة للكاظمية شمال غربي بغداد ، بأحيائها المختلفة فيمر بتسميتها الأولى ” مدينة الهادي ” نسبة ً إلى ” السيد عبد الهادي الجلبي ” الذي كان يملك مساحات واسعة من الأرض فيها بالاضافة إلى بستانه . ويشير إلى دَور ” الحرية ” في بلورة عملية تكوينه الثقافي . يقول عنها : ” ما زلت أحمل وشم مدينتي ( مدينة الحرية ) متشحاً بثوبها ، وكأن زمناً سيأتي بالحقول ، ويجيء بالغيث يمحي عن بلادي جراح السنين ، وتعود تواريخنا الحافلة بالحلم ” (ص 77 ) ، وكأنه وجد فيها امتداداً مكانياً للمدن والقصبات الجنوبية التي عاش فيها أو الفها في زمن مضى به في مرابع الماضي . انه يرسم خارطة للمكان بتفاصيله التي أتى عليها الزمن الآن : بأحيائها ومقاهيها التى كانت ملاذاً لعدد من أبرز مثقفي العراق من سكنة المدينة وضيوفهم . ويورد أسماء عدد من هؤلاء المثقفين فإذا بنا نعرف ان “الحرية ” كانت موطن كاتبة بارزة مثل فاطمة المحسن ومبدعين مرموقين مثل أحمد خلف وحاتم الصكر وحميد الخاقاني وعبد المنعم الأعسم وحسين الهنداوي وجهاد مجيد وزهير الجزائري و موفق الشديدي وفرات المحسن ، والراحلين : نعمان مجيد وعبد الأمير الحبيب وزهير الدجيلي ونصر محمد راغب , وفضلاً على ذلك برزت في “الحرية ” نخبة من رواد الغناء الحديث في العراق .
يتوقف الكتاب في قسمه الثالث عند تشكيلة متنوعة من الموضوعات تستهل بالحديث عن دار المعلمين الريفية التي كانت قائمة في الرستمية منذ ثلاثينات القرن الماضي فيقول عتها : ” كانت مشروعاً للعمل والأمل وتجاريب التربية الرصينة ” ( ص 131 ) ، ليقدم عبرها صورة من صور التعليم في الماضي من خلال تجربة أبيه المعلم والمبدع حسن العتابي ، وهي تجربة تلقي الضوء على ايجابية نظام التعليم في العراق آنذاك. إلى جانب المرور بسيَر عدد من معارف الكاتب من الأدباء وفي المقدمة منهم الشاعر مظفر النواب مدرّسه في المرحلة المتوسطة ، هووسعدي الحديثى. وفي وصلات مفعمة بالود تتنقل ذاكرته بين ناظم رمزي وغانم الدباغ واسعد العاقولي وجيان ورضا الأعرجي وبسام فرج دون أن يغفل التوقف عند شارع المتنبي . ومستفيداً من سفراته إلى خارج العراق ، يشير إلى بعض مشاهداته معلناً عن أمنيته في أن يشاهد في وطنه ولو بعضاً مما كان قد شاهده هناك كأن يتحول شارع الرشيد مثلاً إلى (ممشى المشاهير) ، وهي امنية تقع في باب المستحيلات.
ان جمال العتابي فنان حتى في ما يكتب فهو يكتب بلغة موحية يتداخل فيها الشعر بروح السرد، و” داخل المكان ” شاهد على ذلك !