اسئلة صريحة في زمن غامض …..قراءة في اعمال الفنان جعفر طاعون

اسئلة صريحة في زمن غامض …..قراءة في اعمال الفنان جعفر طاعون

د. حسن السوداني

منذ قرابة العقدين وتجربة الفنان التشكيلي  جعفر طاعون المقيم في السويد تاخذ منحنا تصاعديا في التعبير والتاثير.. فهو باحث دؤوب عن موضوعات لافتة وغير مستهلكة وعبر عشرات التجارب التي قدمها في مقر عمله (بيت الاحلام) كان جعفر مبادرا لطرح اسئلة مباشرة  او غير مباشرة، فتارة تراه يقود مجموعة من الاطفال الى شاطئ البحيرة ليلقون باعمالهم الفنية المصنوعة من الخبز الى الاسماك ليقول ان جميع كائنات الكوكب هي عائلة واحدة. ثم يختار غابة كثيفة لينصب أعمالا على شكل اسرة باذخة متناثرة تثير نوعا من الغرائبية المقصودة..يذهب جعفر لاختيار مواد عمله الفني من مفردات الحياة اليومية , كالسلالم والاسرة  والخبز والكرات البلاستيكية او الاحذية ويحولها الى عالم اخر يعقد صلة غرائبية مع واقعه الاصلي, فالخبز سيمر بجملة من التحولات الشكلانية يشارك في خلقها اناس عاديون توجههم عيون الفنان الحاذقة لتنتهي اخيرا طعاما للطيور في الحدائق او البط في البحيرات المنتشرة هنا!! والسلالم تتحول هي الأخرى الى عالم سري للأطفال يحققون فيه أمنياتهم المخبوئة, بينما ستتحول الأحذية إلى مادة مثيرة للدهشة. وكذلك في مشروعه المكون من الدواليب كمادة اساسية لتحقيق هدفه السري بعقد الصلة بينه وبين المجتمع الذي يخاطبه ومتخذا من الحكاية طريقا لتحقيق هذه الغاية. فالسر الذي تخفيه حكايا الناس يكمن في كونها تكتسب وجوها متعددة بعد روايتها ويختفي وجهها الاول بين شفاه الرواة الذين يتأرجح السرد لديهم بين العارف بالأشياء والماسك بتلابيب المرويات وبين الرائي المترقب لخلق حكايته الخاصة, فكيف إذا تجسد ذلك عبر عوالم التشكيل بممكناتها التعبيرية المختلفة.

علاقة جعفر بالطبيعة تستدعي وقفة اخرى وتحليلا طويلا.. غير اني اسوق هذه المقدمة مدخلا لتناول اعمال المعروضة في قاعة MKB  في مدينة مالمو هذه الايام.

في هذا المعرض يقف الفنان وسط عالم من الغموض بعد اخطر جائحة مرت به في القرن الجديد.. ايام قلائل تغير فيها شكل العالم واصبح يعيش حالة من الفزع تشبه كثيرا ما صورته لنا السينما الأمريكية من افلام الخيال العلمي!! إغلاق المطارات وانهاء الحركة في المدن وانتشار لقوات الامن وموتى بالاف يحصدهم عدو مجهول لا يرى بالعين المجردة.. لا احد يعرف من اين جاء ولا حدود قادرة ايقافه لذلك وقفت اعمال جعفر النحتية في حالة صراع دائم وتوثب مستمر  وفي حالة اخرى تتخذ وضعيات فردية لا حلول لديها سوى الدعاء بطريقة ابي الهول لإنقاذ ما يمكن انقاذه!  كما ان تداعياته لا يكن حصرها في فترة زمنية ربما ستمتد معنا الى قادم السنوات.

الفرد باعتباره المستهدف من كل هذا يجعله الفنان مكورا داخل علبة في لقطة مكبرة (زوم) فهو محاصر من هذا العالم على مدى اتساعه!! او يصوره ككتلة يتخللها ثقب وكانه يريد ان يقول ان الانسان في هذا العالم هو (الفرضة والشعيرة) في بندقية قناص متربص غير مرئي.

المواشجة بين الاعمال النحية والمعروضات التشكيلية بدت واضحة تماما فثمة ثنائيات بشرية تقف متقابلة في لحظة حوار او تمازج يعبر عن حالة من المصير المشترك الذي لا سبيل للتنصل منه فاستدعاء اشكال محددة من داخل اللوحة وعمل مصغرات نحتية لها فكرة بدت جميلة ومعبرة تجعل المشاهد يعقد مقارنة بين الشكل المرسوم ببعدين والعمل ثلاثي الابعاد..وتبرز هنا موضوعة البطل الوهمي المتمثل بفكرة (دون كيشوت) الذي يريد تغيير العالم وهو لا يمتلك ادوات التغيير,  وهي استدعائة من معرضه الاخير الذي عرض في مدينة لوند السويد, فالابطال الفرديون باتو نوعا من نسج الخيال وسط هذا العالم الذي تتحكم به قوى كبرى تسحق الفرد بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

 يعمل الفنان على اللعب بثلاث ثيم اساسية في اعماله تتمثل في ( الذاكرة, المكان, الحلم) وهي عناصر قابلة للاستطالة التعبيرية والتأويل المتعدد فكما هي تنطبق على زمننا الحاضر (زمن كورونا) يمكنها ان تنطبق على زمان ومكان اخر. الاشياق للامكنة ثيمة اخرى يستثمرها الفنان في معرضه هذا , فكل تلك الامكنة التي مررنا بها وتركت فينا اثرا نفسيا باتت قصية الان لاساب كثيرة كما هو الحال لتلك الامكنة التي لم نراها حتى الان وسط تمنيات ان يمنحنا الوقت فرصة لمشاهدتها, هذا العالم من الحنين جزء من الاسئلة التي يطرحها الفنان جعفر طاعون امام المتلقي ويزجه للاجابة عنها  حتى ولو بالتمنيات فقط.

ورغم ان الفنان يتخذ من اسلوب التجريد منهجا له في المعرض لا ان طمس معالم الشخصيات قد منحها وضوحا يتناسب وقصدية المعنى. ‘ ففي الوقت الذي نفسره هنا بلحظة زمنية راهنة الا انها قد تستطيل الى المستقبل او الماضي دون ان يؤثر ذلك على زمنية العرض.. وهي التفاتة ذكية من الفنان ان لا يضع مسميات لاعماله كي لا يسجنها في زمنها الراهن.

الفنان جعفر طاعون يعلن بوضوح اسئلته الصريحة في عالم يكتنفه الغموض!

(Visited 19 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *