شاكر الانباري
أدخلتِني في زهرة الرمّانِ، ثم مضيتِ عني/ وتركتِني بين التُّوَيجةِ واللقاح/ تركتِني، أعرفتِ أني سائرٌ في زهرة الرمّانِ، آلافاً من السنوات؟/ أفتحُ في التُّوَيجِ مدينةً قرويّةً/ وتعاونيّةَ فوضويّين …/ السماءُ قريبةٌ/ وبعيدةٌ أرضي.
مات الأخضر بن يوسف. مات غريبا عن البصرة التي أحبها والعراق الذي شغل روحه وشعره. مات سعدي يوسف غريبا عن نخيله، وعماله، وحمامات السلام الطائرة فوق ساحة الطيران. ماتت “أدخلتني في زهرة الرمان ثم مضيت عني”، مات الأمير”الأخضر” الذي كان يلتف ببرده في باحات الجامع الأموي. ماتت طفولتنا ونضالنا وأحلامنا وهي تتشوف إلى غد أجمل. أما “سالم المرزوق” فقد هجر سفينة الأحياء. سافر إلى الأبد في مركب جده جلجامش.
سافر بمركب سكران إلى العالم السفلي. يا سالم المرزوق خذني في السفينة، في السفينة / خذ مقلتي ما تشاء إلا حكايات النساء/ يا سالم المرزوق زوجتي الحزينة/ في بيت والدها سجينة / في قرية من قرب من سيحان جرداء النخيل / يا سالم المرزوق/ ليست كالنساء/ هي حلوة يا سالم المرزوق يذبلها البكاء/ هي طفلة مازال يفرحها القمر/ وتخاف إن هطل المطر. لقد تهاوت قلعة ضخمة من قلاع الثقافة العراقية والعربية. وغابت في تهاويها ندوب الزمن، وسيرتها، منذ الخمسينيات وحتى اليوم.
لا يمكن تذوق الشعر العربي الحديث دون قراءة سعدي يوسف، فهو التجربة الأوسع في تاريخ الحداثة الشعرية. كان سعدي هو الظل العالي لكل شاعر شكلت الحياة والتجربة مادته الشعرية. لقد حول الفعل الانساني، اليومي، إلى صور بليغة بكلمات متداولة لا نلتفت إليها. سعدي الذي يتنفس شعرا، كان سليل امرىء القيس والمتنبي والجواهري بالمتانة، ينتمي إضافة لذلك إلى جوقة الشعراء الذين مجّدوا الحياة مثل والت ويتمان وكافافيس وبابلو نيرودا ورامبو، ممن عجنتهم التجربة لتتحول فيهم روح الشعر إلى كلمات. أتذكر تلك الظهيرة البعيدة بوضوح. ظهيرة وقفنا فيها وسط مكتب دار المدى الواقع في ركن الدين الدمشقي حائرين. اتصلت أم حيدر من ألمانيا وأخبرت مديرة الدار السيدة “هناء أدور” عن وفاة “حيدر سعدي” في تايلاند لأنه كان متزوجاً من امرأة تايلندية. سعدي كان خارجاً ليتغدى في مطعم قريب، وكنا ننتظر عودته. لكن من يجرؤ على اخبار أب بوفاة ابنه؟ دخل سعدي المكتب ولاحظ الوجوه المغلقة، الحزينة، فوقف صامتا، متسائلا عن الموضوع. قادته السيدة هناء إلى غرفة المدير وأخبرته بالحدث المفجع، فظل سعدي جامدا مثل تمثال صخري. لم تسقط منه دمعة، ولكن الذهول كان قد استولى عليه. لحظات لم أستطع نسيانها كلما ورد اسم سعدي، رغم أن الحادثة جرت قبل أكثر من عشرين سنة. كنت حاضرا دفن حيدر سعدي في مقبرة الست زينب، وكنتُ حاضراً حين دفنا عبد الوهاب البياتي في مقبرة الشيخ العارف محي الدين بن عربي قبل خمس وعشرين سنة، وسمعت كلمة سعدي التي ألقاها فوق الحفرة النهائية. قبل ذلك بأشهر كنا نجلس في مطعم قصر البلور ورأيت سعدي ينهض من كرسيه ليقبل أصابع البياتي بحضور الشاعر محمد مظلوم وفخري كريم، حيث سكتنا مدهوشين نتبادل النظرات.
نبيٌّ يقاسمُني شقَّتي/ يسكنُ الغرفةَ المستطيلة/ وكلَّ صباحٍ يشاركُني قهوتي والحليبَ/ وسرَّ الليالي الطويلة/ وحين يجالسُني، وهو يبحثُ عن موضعِ الكوبِ في المائدة/ وكانتْ فرنسيةً من زجاجٍ ومعدن/ أرى حولَ عينيهِ دائرتينِ من الزُّرقةِ الكامدة/ وكانت ملابسُنا في الخِزانةِ واحدةً/ كان يلبسُ يوماً قميصي/ وألبسُ يوماً قميصَه/ ولكنه حين يَحتدُّ يرفضُ أن يرتدي/ غيرَ برْنسِهِ الصوفِ/ يرفضُني دُفعةً واحدة”. سعدي يوسف متناقض، خجول، يكره التقديس والتبجيل، مثل أي تجربة واسعة حرة، وكأي انسان عادي، قريب من حقائق الأرض والوجود. يضاف لذلك تنوع التجربة في الزمان والمكان، وهذا ما جعل لشعر سعدي حيوية طاغية، قادته كي يواصل سيرته ذاتها. السيرة الخجولة، العدوانية، الرقيقة، الصادحة، الحزينة، الساخرة، حتى مماته في الخامسة والثمانين.