شيخة حسين حليوى – كاتبة فلسطينية
هذا المبلغ الذي ادّخرتهُ لن أفرّط فيه ما دام لا أحد يعرف بوجوده. ولو كانت أمّي تشكُّ في أمره أحيانا. الحرب رفعت أسعار كل شيء؛ الخبز والسجائر والسكر والقهوة والحبّ والزواج. ولكنّي قلّصتها جميعها. القهوة فنجان في اليوم دون سكّر. علبة السجائر لأربعة أيام والخبز لا يزاحم شيئا. القليل منه يكفيني.
والحبّ والزّواج؟ هما مقلّصان أصلا بالنسبة لي منذ تجاوزت العشرين.
ولكنّ المهمة الأكبر في هذه الحرب هي أن أبقى حيّة أوّلا ثمّ أتجاوز الحدود ثانيا. هما أمران رهينا المصادفة. المصادفة والحظ فقط. جارتي قتلت مع أولادها وهي تعبر الحدود، وابنة خالتي صارت وراء البحار حينما صار بيتها أنقاضا وقطّتها التي تركتها وراءها نجت. هي مصادفة وحظ. لا أولاد عندي أحملهم لاجئة إلى الدولة القريبة، لا قطّة تقفز من سطح لآخر، لا شيء سوى أنفي أحمله وأحمل همّه. هذا الأنف الكبير الأعوج هو أسوأ من الحرب. ألن تنتهي الحربُ يوما ما؟ ستنتهي وهو يبقى مكانه، وأحيانا يكبر خاصّة في الصّباح بعد ليل طويل من القذائف والخوف والكوابيس الهجينة. لستُ وحدي من يقول ذلك، المرآة أيضا. ومرّات يصير أحمر. ما أبشعه وهو يتوسّط بشرتي البيضاء الصّافية. تطلُّ عليه من أعلى عينان خضراوان تصنعان العجب حين أحجبه بكف يدي. يغطّي بقبحه أيضاعلى شفتين مكتنزتين ناهضتين.
– أليس أسوأ من الحرب؟ أنفي أليس أسوأ من الحرب؟
قلتها أكثر من مرّة لأمّي المسكونة بخوف من الموت.
ببديهة سريعة تجيب: ورثتِهِ من أبيك، وأبوك أصغر شيء فيه أسوأ من أيّ شيء.
لا تفوّت فرصة أبدا لزجّ أبي في كلّ محادثة. تفعل ذلك بمتعة كبيرة تريحها لنصف نهار. صدقتْ في بعض كلامها، لها أن تقول ذلك وقد ورثتُ عنها أجمل ما فيّ، عينين وشفتيْن. ولكنّ أبي ليس سيئا رغم أنفه، أقصد رغم أنّ أنفه كبير وأعوج.
اعتقدتُ أنّ الموت المتربّص بالناس سوف يخفّف من وقع أنفي عليّ، أو أقلّه أنشغل عن عَظمَتِهِ ومنخاريه بأسئلة وجوديّة كبيرة. فأنظر إلى شارعنا الذي تتغيّر ملامحه كلّ صباح ولا أتحسّس وجهي وأنا أنهض من نومي، أو أحصي الراحلين من معارفي خلال ستّة أشهر ولا أقيس القطعة التي سيسقطها عن أنفي مشرطُ الجرّاح. كنتُ أعوّل على الحرب أن تقنعني بضرورة التمسّك بالحياة دون الالتفات إلى التفاصيل الكبيرة التي تقتلُ التفاصيل الصغيرة والجميلة. القتل اليومي في الشّوارع كنتُ أعوّل عليه، فلكلّ جثّة في الشّارع أنفٌ صغير أو كبير يموت معها. هذه الحرب المؤدّبة معي جدّا تتركني أعيش حياتي كما اعتدتها، ضيفة خفيفة هي على نهاري وليلي. بالكاد أشعر بخطواتها في أورقة روحي. أنفي ظلّ كما هو وأنا ما زلت أكرهه وأحلمُ بتغيير ملامحه عند أقرب فرصة. ولو كتبَ لي الموت في أحد الشوارع أو في سريري أريد أن أموت بأنفٍ جميل معقول الحجم ولو كانت عيناي ساعتها مغمضتيْن وشفتاي جافتيْن زرقاويْن.
وأسأل كلّ صباح كيف سأعبر الحدود إلى أنفٍ جديد؟
بسهولة صار يتسرّب إلى أفكاري عرض مديري الكهل المتكرّر للزواج به. أظنّها الثغرة الوحيدة التي تسلّلت منها مخاوف الحرب. قبلها لم أكن أعيرهُ أيّ انتباه رغم أنفي الكبير. أقصد رغم أنّ أنفي كان يقلّل إمكانيات زواج يرضي شبابي وأحلامي. وهكذا صرتُ أكرههما أكثر: أنفي ومديري الكهل. والحرب أيضا.
حتّى أنّني بتُّ اناقش عرضهُ وأنا أقيس أنفي أمام المرآة. ما العلاقة بينهما أيتها المرآة اللعينة؟
– إذا قبلتِ عرضه قد يكون باستطاعته أن يجد طريقة ليأخذك إلى جراح تجميليّ و…
ثمّ ماذا؟ أأحقّقُ حلما وأدفن آخر؟
لا لا أيّتها اللعينتان. المرآة والحرب. لم أفقد الأمل بعد. ما دام الموتُ في الشّوارع علامة حياة لا بدّ أن أجد طريقة لجرّاح جيّد، وعندها لن أنشغل كثيرا بأمر زواج جيّد أيضا. سيأتي رغم الحرب وبسبب أنفي الجديد.
سيأتي وإن كانت أمّي تتعامل معي على أنّني عانس أبديّة. كلّما تخطّت الواحدة سنّ العشرين قلّ الطلبُ عليها. هكذا تردّد. أقسمُ أنّني أحيانا كنت أشعر وهي تردّد هذه الكلمات أنّي بضاعة في سوق المدينة. أتخيّل نفسي أقفُ في واجهة زجاجيّة يتفحّصني الزبون ويُساوم على سعري. ثمّ يشتريني بسعر أربعة كيلوات من اللحمة. أمّي والحرب اللعينة والمرآة أمور قد لا تجد قاسما مشتركا بينها في أوقات عادية ولكنّها في ظروف خاصّة تصير أوجه كثيرة لعملة واحدة.
في الصّباح الّذي قرّرتُ فيه أن أفكّر جديّا بأمر مديري الكهل كفرصة خلاصٍ أخيرة حدثت المعجزة. وأيّ معجزة! لم يأت العريس الحلم ولم أعبر الحدود لأنفٍ جديد. سقطت قذيفة في الشّارع وكنت في طريقي إلى العمل. طارت أشياء وحطّت على الأرض في رحلة تحوّل عجيبة من الكامل إلى الأجزاء. والأصوات كانت تتكسّر أيضا. لأوّل مرّة انتبه أنّ الأصوات تتكسّر، تصير أنينا متقطعا وصرخات غير مكتملة. ركضتُ مع الجميع أبحث عن زاوية آمنة وأنا أحضن رأسي بين يديّ. كلهم كانوا يحضنون رؤوسهم بين أيديهم. حتّى الذي طارت قدمه أوعينه.
“الحرب تحصدُ الرؤوس” هو توصيف دقيق يكتملُ معناه الآن. في موسم حصاد جماعيّ بفعل قذيفة تتعمّد الرؤوس أوّلا. الأعضاء الباقية هي فوق البيعة بحسب قصّاب الحيّ المحتال.
رأسي ثقيلة جدّا. وأفكاري أثقل منها. المهمُ أنّها ما زالت فوق كتفيّ ولتذهب الأفكار إلى القبور الجماعيّة. خيط سميك ولزج من الدم الأحمر أسكت رأسي وأفكاري واندفع بقوّة من مكانٍ ما في الأعلى إلى صدري وبطني، دم غزير لا يتوقّف لطّخ وجهي وحجب عني الرؤية. كانت حجّة مقنعة بعد أن وصلتُ مكانا آمنا أن أغيب عن الوعي وأسقط على الأرض تاركة ورائي تتمّة تفاصيل ذاك النهار.
في المستشفى كانت التفاصيل تحضر وتغيبُ فجأة. يداي سليمتان وقدماي أيضا. ورأسي مكانها. بعد أيّام فهمتُ أنّ الإصابة في وجهي وفي أنفي تحديدا. شظّية صغيرة طارت وحطّت عليه وهو المعلم الأبرز في وجهي. عندما قرّرت الحرب أن تعاقب لا مبالاتي اختارت أنفي. أليست سافلة؟ كما تتصيّد المباني العالية المُسالمة تصيّدت أنفي. كم صار ثقيلا هذا الأنف وسيصيرُ بشعا أيضا. أيُّ عقاب هذا؟ أيُّ ظلمٍ هذا؟ هل كان الموت أفضل أم الزواج من كهلٍ حقير؟
ثمّ هذه المستشفى البدائيّة قد تطيحُ بأنفي بما لا تمتلكهُ من معدّات جراحيّة فتكون قد قضت على آخر أملٍ لي. كنتُ أعدُّ اللحظات حتّى تتمّ إزالة الضمادة عن وجهي، وأحيانا أقول فلتبقَ، هي حجّة أخرى مقنعة للتخفّي وراءها إلى حين.
وكان الألم آخر ما أفكّر به. أتعالى عليه أحيانا وأسكتهُ أحيانا أخرى. حولي مصابون فقدوا أكثر من عضو. وأعضائي سليمة كلّها، هذا إذا ظلّ انفي مكانه.
ومع موت جديد في شارع آخر سارع الأطبّاء لتفريغ المستشفى من الإصابات الخفيفة، وكنت منها. عدتُ إلى البيت. إلى أمّي ومرآتي. تحاشيتهما لأيّام.
وسقطت الضمادة ذات صباح. دون جهد منّي أو تخطيط. تهاوت من مكانها وعرّتني. وقفتُ وسط الغرفة والمرآة خلفي. دقائق مرّت وأنا متجمّدة مكاني. مرّت أمّي أمامي ثمّ توقّفت فجأة مصدومة. كتمت شهقة بيدها وسكتت. شريط غريب من الأفكار استعرضته ذاكرتي في لحظات. ثمّ التفتُّ نحو المرآة. كم كان مدهشا وجميلا ومفاجئا. هل هذا حلم أم انعكاس خبيث من مرآة طالما شتمتها؟ إنّه أنفي كما حلمتُ به بل هو أجمل. لقد كانت الشظيّة مهندسة تجميل مهنيّة جدّا. عرفت أيّ قطعة زائدة منّي تنزعها تحت غطاء الحرب والموت. يدي تطمئنُ على تفاصيل أنفي الناعمة والرقيقة. والزرقة حول عيوني لا تخفي جمال التفاصيل. هل هناك من هو محظوظ أكثر منّي؟ لا أصدق! إلاّ من مات وعاد إلى الحياة. وهم قلّة في شوارع الموت.
أنفي الجديد، أنفي الجميل، وجهي المتناسق الفذّ. لا عين تتوقّف عند كومة من لحم تقتل جمالا أخضر في العينين وشهوة حمراء في الشفتين. وجه فذّ بارع.
كلّها تفاصيل صارت تصنع نهاري في وجه الحرب البشع. في الليل تنتابني كوابيس مرعبة. أرى الحرب تمشي في الشّارع المُحاذي لبيتنا، جسدا مترهّلا يحملُ أنفا عملاقا دون وجه، أنفا بمنخارين كهفين معتمين وعظْمة كسطح أعوج خرب. يهربُ الجميع إلى البيوت الآيلة للسقوط، يتوزّعون كأوراق الشجر الهشّة في مهبّ الريح. وأنا أضحكُ من بعيد وأقول للمرآة:
للحربِ أنفٌ كبير
أسوأ من أنفي.