أحمد الصائح
المعيار: هو وحدة قياسِ الشّيء للحُكْمِ عليه ، وبطبيعةِ الحال فإنّ في اختلالِهِ اختلالً فيالحكم على الأشياء.
فبعدما اتفقَتْ الشعوبُ على ما أوجدَه العلماءُ والباحثون من معاييرٍ للأشياء المادية ،تُقاسُ بها أوزانُها وأحجامُها وكُتَلُها وسرعتُها ومساحتُها ، دونِ مجالٍ للشك فيهالعلميّتِها وثبات قياسِها، كذلك عُمْر المخلوقات الذي أُخضِعَ لمعيارِ حركةِ الكواكب ودورانِهاحولَ نفسِها أو حولَ بعضها البعض .
نُلاحِظُ خلافا واختلافا واضحا بين هذه الشعوب في معاييرها حول القضايا المعنويةالمتعلقة بالإنسان؛ كالشّرف والتديّن والمِهنيّة والكفاءة والرّجولة والحلال والحرام …إلخ ، باعتبار مفاهيم هذه القضايا متشعّبة لاتخضع للمعايير العلميّة الثّابتة ، ــ فكانَ الحكمُفيها تبعا لمعاييرتُؤوّلُها طبيعةُ الشّعوبِ وتنوعُها وثقافتُها والإيديولوجياتُ المُتحكمةُفيها، لاسيّما قضايا التحليل والتحريم التي اختلطت فيها معاييرالنصوص الإلهية معوجهات النظرالمختلفة لقساوسة ورهبان وحاخامات وشيوخ ومَلالي، لاسيّما مرونةالمحتوى التي تتمتع به النصوص المتاحة لديهم والتي أعطت مساحةً ممكنة لتعدّدِ آرائِهمووجهاتِ نظرهِم فيها، ما أدّى إلى تباين معايير الحُكم عليها لا بين الشعوب أو الأديانفحسب بل بينَ مذاهب الدينِ الواحد نفسِه، حتى الفلاسفة لم تكن مثل هذه القضايابمنأى عن آرائِهم المتعددة أيضا.
فباتتْ الشعوبُ أسيرة ً لمعايير محتلفة تبعا لاختلاف وجهات النظر، سواءٌ أُرغِمتعليها أم رأتْها تتماشى مع توجّهاتِها فَرَضِيَتْ بها، ما أدّى إلى ترسيخ قواعد فكريةوتفكيرية متباينة تسيرُ وفقَها ؛ وبالتالي تبايَنَتْ الأحكام على طبيعةِ الإنسانْ سويّاً كانَأم شاذّا ، والخطيرُ في الأمر بأنّ جذورَ هذه القواعد تصلُ صعوبةُ اقتلاعِها إلى حدِّالاستحالة ؛ إذا ما تبيّنتْ لاحقا أخطاءٌ في إحدى وجهات النظر تلك؛ والتي كانت سببافي تردّي أوضاعها وتخلّفها عن باقي الأمم، فترى الناسَ بدلاً من أنْ تراجعَ الأسبابَوالأخطاءَ وتعيدُ النظرَ فيها ذهبَتْ إلى مستنقعِ القضاءِ والقدرْ تندُبُ حظّها وترمي عليهأسبابَ نكبتِها و تخلفِها .
كذلك بروز الظواهر داخلَ المجتمعات هو نِتاجٌ لمعايير معيّنة أسهَمَتْ في تفشّيها،سلبية كانت أو الإيجابية على حدٍ سواء ، فعندما كانتْ مدى الثقافةُ التي يتمتعُ بهاالفرد هي الفيصل في تَفضيل الإنسان عن غيره، إزدادَ إقبالُ الناس على القراءةوتوافدُهُم نحو المكتبات مجاراةً منهم لأقرانِهم ولمعاييرالواقع المُتحكّمة فيهم، بينما نلاحظعندما انحرف المعيار نحو التديُّن أصبحَ التوافدُ والإقبال نحو المساجد بشكل ملحوظناهيك عن المغالاة التي تجدها عند البعض في طقوسهم محاولين إبراز المظاهرالتي تُدلّلعلى ذلك وانتشارظاهرة الرّياء وما شابهها من أمورالتستّر بالدِّين، كذلك معايير المهنيّةالصحيحة واختيار الإنسان في مكانه المناسب التي أُفسِدت بسبب تفشّي معاييرُالمحسوبية والانتماءاتُ الحزبية والولاءُ للمتنفّذ، ما تسبّب في تردّي عمل المؤسسات وخلق نوعا من الصراع بين فِئات المجتمع .
وهناك معايير كُتبت على أساسِها بنودا عديدة في الدساتير والقوانين المدنيةوالشّرعية والضرائب أرغمت الشعوب على ممارسات تجاري فيها المعايير المُعتمدة ، ففيحادثةٍ مشهورةٍ حكمَتْ المحاكم المصرية في قضية حضانة طفل بين زوجٍ مسلم وطليقتهالمسيحية بضم الحضانة إلى الأب وفق معيار( الإسلام الدين الرسمي للدولة) الذي أصبحبنداً قانونيا يتيح الأفضلية لمن هو على الدين الرسمي؛ مما دفع بالأمّ إلى اعتناق الإسلاملكسب القضية لصالحها! كذلك وُضِعَ بندٌ في قانون الضرائب لبعض الدول ينصّ علىتخفيض الضرائب أو إلغائها عمّن يساهم في بناء مسجدٍ ، فكثُرَت بناء المساجد بغضالنظرعن النوايا أهي تعميرا لبيوت الله أم تهرّبا من الضرائب، وما كان على المُشرّع إلّا أنْيضيفَ عبارة ( أو مدرسةٍ أومستشفىً عموميان) حينها تجد العديد من المدارسوالمستشفيات العامّة قد شيّدتها الناس وبالذّات رؤوس الأموال منهم وللغرض نفسِهبالطبع، لاسيّما وهناك عجزٌ ملحوظ تعاني منه هذه الدول في مؤسساتها التربويةوالصحية …
إنّها المعايير ــ أيّها القارىء الكريم ــ المؤطرة بشتى الأُطُر قانونية كانت أم عرفية تتعلقبالتقاليد أم دينية وفي جميع الحالات تبقى المحرّك والسبب الأهم لما تتطبع عليهالشعوب .
والمثير للعجب هو ذلك المعيار الذي يكادُ متعلقا بجميع القضايا الإنسانية وبالوقتنفسه تناساه البعض أو تغاضوا عنه ألا وهو ( الحَياء) الذي نصّ عليه قول الرسولمحمد (ص) : ((إذا لمْ تَسْتَحِ فافعلْ ما شِئْت)) الحياء : هذا المعيار الحقيقي للإنسان ما أنْاتخذه سبيلا في معاملاته ومهنته إلّا وكانَ إنساناً سويّا بحق اتفقت على سويّتهالشعوب جميعُها .