محمد الكلابي
لا يكون الماضي صادماً حين يقع، بل حين يستقر في تفاصيل الحياة اليومية دون أن يعلن عن نفسه. عندها يفقد الإنسان القدرة على تفسير ما يحدث له، ويبدأ في التعامل مع الاضطراب كقاعدة وجود لا كاستثناء. الأدب الذي يقترب من هذه المساحة لا يكتفي بتسجيل الحوادث، بل يفتّش عن أثرها في اللغة، وفي الجسد، وفي العلاقات التي تتشكل بوصفها استراتيجية بقاء لا بوصفها تعبيراً عن إرادة حرّة. «تنهيدة حرية» لـ الكاتبة رولا غانم، الفائزة بجائزة كتارا لعام ٢٠٢٥، تتعامل مع التاريخ بهذا المعنى: ليس كخلفية يمكن سردها، بل كطاقة خام تعيد تشكيل البيت، وتعيد توزيع الأدوار داخله وفق منطقٍ لا يصرّح بأسبابه، لكنه يفرض نتائجه. في هذا السياق، لا يبدو الوطن حدثاً كبيراً على الصفحة، بقدر ما يبدو حمولة صامتة على الجسد، وصدى في طريقة الكلام، وإيقاعاً خفياً في الخوف الذي يسبق اتخاذ أي قرار.
العالم الذي تبنيه الكاتبة عالمٌ من البيوت قبل أن يكون عالمَ مدن؛ بيوت نصف مكتملة، عائلات أُعيد تركيبها بعد نكبات صغيرة وكبيرة، وجدّة خرجت من يافا لا تحمل «حكاية وطنية» بل طريقة خاصة في الخوف، وأماً خرجت من زواج مدمّر وأخذت معها ذنباً يقيم في نبرة الصوت لا في الجمل، وابنة تدخل الحياة وهي تتعامل مع الأمان كاستثناء مؤقت لا كقاعدة. يمكن قراءة هذا العالم بوصفه تجسيداً لما يصفه علم النفس بالصدمة العابرة للأجيال: الألم لا يبقى في جيل واحد، بل ينتقل عبر أنماط التربية والتوقعات والإيماءات اليومية أكثر مما ينتقل عبر السرديات الكبرى. كان فرويد يقول إن ما لا نستطيع أن نقوله نعيد تمثيله في حياتنا، وهذه الرواية مشغولة بهذا النوع من التمثيل أكثر مما هي مشغولة بالرواية المباشرة للأحداث؛ الجدة التي تقطع الحكاية في منتصفها، الأم التي تحاول إصلاح ما لا يُصلَح عبر إفراط في الرعاية، الابنة التي تخاف من خطوة جديدة كأنها مدخل محتمل لكارثة أخرى، كلها تجليات لصدمة لم تُعالج، بل تمّ ترحيلها.
العائلة هنا ليست إطاراً حنوناً، بل بنية لقوى دقيقة. البيت ليس «دفئاً» ولا «حضناً»، بل حقل تتوزع فيه السلطة وفق معايير النوع الاجتماعي والعمر والذاكرة. إذا استعرنا من بيير بورديو مفهوم «الهابيتوس»، أمكن القول إن الرواية تكتب الهابيتوس الفلسطيني بعد النكبة والحروب والاحتلال: ذلك المخزون من الاستعدادات اللاواعية الذي يجعل الجدّة تُشدّد أكثر مما يلزم لأن العالم لا يرحم من يخطئ، ويجعل الأم تمزج الحب باللوم لأن حياتها توقفت عند محطة بعينها، ويجعل الابنة ترى الخروج من المسار المرسوم خيانة غير معلنة لقرارات النساء اللواتي سبقنها. هنا تشتغل «الوطن» و«الشرف» و«التضحية» ليس كقيم مجردة، بل كقواعد مضمنة في تفاصيل صغيرة: تفضيل الذكر لأنه ضمانة في عالم مهتز، مراقبة جسد الأنثى لأنه الحد الأخير الذي يجب ألا يُمس، الاحتفاء الظاهري بنجاح الفتاة مقروناً بتذمر خفي لأن نجاحها يهز توازنات قديمة.
في هذا السياق تُسحَب المرأة إلى مركز المشهد بوصفها نقطة تقاطع لا بوصفها شعاراً؛ هي الجسد الذي يُزف في زواج مرتب، وهي من تُرهَق بالإنجاب ثم تُستدعى إلى سوق العمل حين يختلّ الاقتصاد، وهي في الوقت نفسه موضوع رقابة صارمة على السلوك والملبس والحركة. «تنهيدة حرية» تكتب المرأة ككائن يعيش على حافة تناقض دائم: مطالبة بأن تكون مصدر استقرار للأسرة، ومطلوب منها في الوقت نفسه أن تدفع ثمن كل «خطأ» في التاريخ العائلي والجسدي. غير أن هذا التركيز على المرأة، على قوّتها وهشاشتها معاً، ينتج أثراً جانبياً لافتاً: تتحول أغلب الشخصيات إلى ضحايا في شبكة لا تظهر فيها اليد التي تصنع الجرح بوضوح كافٍ. الأم ضحية، الابنة ضحية، الرجل ضحية السجن والاقتصاد، والمجتمع ضحية الاحتلال. بهذه الهندسة، ينزاح سؤال المسؤولية الأخلاقية إلى الخلف؛ لا نكاد نجد شخصية تُواجَه بوصفها فاعلاً في تكريس الأذى، بل نرى الجميع محمولين على موجة قدر واحد. هذا الاختيار يضفي شحنة تعاطف عالية، لكنه يقلل من كثافة الصراع الأخلاقي داخل النص: عالم بلا فاعلين واضحين هو عالم يقلّ فيه إمكان طرح السؤال المؤلم: من يفعل ماذا بمن، ولماذا.
ومع ذلك، فإن هذا الاشتغال على الداخل لا يمنح الرواية حصانة كاملة حين تقترب من الخارج؛ إذ إن البناء الزمني للأحداث يقدّم مفارقة يصعب استيعابها سردياً. فالعائلة التي تُوضع في غزة بعد النكبة، ثم يُرسم مسارها نحو الزواج والخروج في منتصف الستينيات، تُواجه على مستوى الوقائع التاريخية استحالة لا يمكن تجاوزها بسهولة؛ فالحصار الذي فُرض على قطاع غزة بعد حرب ١٩٦٧ لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان بنية جغرافية–أمنية تعيد تنظيم الحركة، وتمنع انتقال الأفراد إلا ضمن استثناءات ضيقة جداً تتعلق بلمّ الشمل أو الدراسة أو المرض أو العمل بتصاريح خاصة. هنا يفترض السرد حرية حركة في لحظة أُعيد فيها تشكيل الحدود، ويفترض انتقالاً سلساً في وقت كانت فيه كل خطوة خارج البيت مشروطة بتصريح، وكل عبور يتحول إلى مخاطرة وجودية.
المفارقة هنا ليست في غياب الدقة فحسب، بل في أن السرد يستعير تاريخاً ليرسم خلفية للمعاناة، ثم يفككه دون أن يدرك أن الزمن نفسه ليس محايداً. الزمن في التجربة الفلسطينية ليس وعاءً للحوادث، بل سلطة تُقنّن ما يمكن حدوثه. لذلك، فإن تجاهل هذه السلطة يجعل بعض الأفعال السردية، مثل خروج سلمى في سن السادسة عشرة عام ١٩٦٧، أشبه بتعليق المصير على فراغ. ليس المهم أن الخطأ مخالف للواقع، بل أنه يهدم منطق الإمكان؛ إذ حين يتصدّع الزمن، يتصدّع معه كل ما يُبنى فوقه. الرواية هنا تُراهن على الذاكرة الخاصة، لكنها تُغامر بنسيان الذاكرة العامة التي تحدد شروط السرد، وتجعل من الماضي ليس شيئاً يمكن «نحته» روائياً بلا تبعات، بل مادة صلبة تقاوم إعادة التشكيل.
ومن هذا المنظور، يظهر التوتر الأعمق بين مشروع الرواية الجمالي ومادتها التاريخية: النص بارع في تفكيك ما تفعله الكارثة بالنفس، لكنه أقل صرامة حين يتعامل مع ما تفعله الكارثة بالمكان؛ المكان الذي لا يمكن الخروج منه إلا بوصفه جرحاً، لا ممراً. ربما كان بإمكان الرواية أن تنجو من هذا الاختبار لو أعلنت منذ البداية أنها تكتب «ذاكرة داخلية» لا «تاريخاً»، أو لو انحازت بوضوح إلى تشكيل عالم بديل لا يدّعي التطابق مع الوقائع. لكن تعليق الزمن بين الدقة والاحتمال يجعل القارئ أمام مفارقة: هل ينظر إلى الشخصيات بوصفها محكومة بصدمات التاريخ، أم بوصفها محكومة بتنازل السرد عن التاريخ؟ في الحالتين، الزمن ليس خلفية، بل جداراً يصطدم به الخيال كلما حاول أن يتصرف كما لو أن الحدود استعارة لغوية أكثر منها حدوداً أمنية.
من جهة أخرى، تستند الرواية إلى حسّ نفسي حاد في التقاط الأنماط المتكررة. بتول لا تكرر فقط تجربة أمها، بل تعيش ما يشبه «قدر النمط»: كل محاولة لكسر السلسلة تنتهي إلى تصنيع سلسلة جديدة ولكن باسم آخر. الجدة تظن أن الصمت حماية، فيتحول صمتها إلى عبء على اللاحقين، والأم تحاول أن تعوض أبناءها عن غياب سابق فتحولهم – دون أن تقصد – إلى امتداد مذنب لسيرتها، والابنة تحاول أن تبني حياة تخصها فتكتشف أن كل خطوة نحو الحرية مهددة بخطاب جاهز عن السمعة والواجب و«القيم». هنا يمكن استحضار مفهوم «العجز المكتسب» عند مارتن سليجمان؛ فمَن يتعرض مراراً لخبرة اللاجدوى يتعلم، في مستوى عميق، أن جهده لا يغيّر النتيجة، فيتوقف عن المحاولة حتى حين تتبدل الظروف. حمزة الخارج من السجن يحمل بعض ملامح هذا العجز؛ يعرف أن السجن انتهى من الناحية الإجرائية، لكن الجسد ما زال يتصرف كما لو أن الحرية ممر موقت إلى خسارة جديدة، وبتول تعرف أن من حقها أن تختار، لكنها تتصرف كما لو أن خياراتها محكومة سلفاً بكلفة لن تتحملها عائلتها. غير أن الرواية، وهي تغوص في هذا التحليل النفسي، تقع في فخّ آخر: الوعي لا يقود غالباً إلى انتقال حقيقي. الشخصيات ترى مأزقها، تسميه أحياناً، تعترف به في حوار أو مناجاة، ثم تستمر في الدوران في المدار نفسه. ما تقدمه الرواية من وعي عميق لا يتحول في أغلب الأحيان إلى فعل يغيّر المعادلة، فيغدو الوعي نفسه جزءاً من اللعبة لا أداة للخروج منها؛ نوعاً من المرآة القاسية التي تُظهر الجرح ولا تقترح صناعة جديدة للذات من خلاله.
مع ذلك، يبقى ما تفعله رولا غانم مثيراً للاهتمام من زاوية فلسفية. فهي لا تتعامل مع الحرية كمفهوم معلّق في الفراغ، بل كاختبار مستمر لما يمكن أن يتحمله الإنسان من تبِعات اختياره. الحرية هنا ليست لحظة انفجار، بل هامش تفاوض: امرأة تقول «لا» وهي تعرف أن هذه الـ«لا» قد تكلفها بيتاً وأسرة وغطاءً اجتماعياً؛ رجل يرفض أن يتحول إلى صورة جاهزة عن «الأسير السابق»، لكن استعادته لإنسانيته لا تُقابَل دوماً بالاحتفاء؛ جدة تقرر أن تتكلم فتدرك أن الكلام لا يمحو ما حدث، لكنه يخفف على الأقل من شعورها بأنها وحدها من يحمل السرّ. الرواية، بهذا المعنى، لا تقدم الحرية كخلاص نهائي، بل كتنهيدة فعلاً: لحظة قصيرة يُنتزع فيها الهواء من قبضة الخوف، قبل أن تعود البنية إلى إحكام قبضتها.
ما الذي تفعله هذه الرواية بالقارئ إذن؟
لا تُطمئنه ولا تُحطّمه. تزيح عنه وهماً وتتركه أمام سؤال أثقل. تقول له، من تحت السرد، إن الجرح حين يتحول إلى بنية عائلية وثقافية لا يعود قابلاً للحل بمشهد بطولي واحد، وإن الحرية حين تُختبَر داخل غرفة الجلوس ليست أقل تعقيداً منها على بوابة السجن أو على حدود الوطن. تجعله يرى أن كثيراً مما يسميه «اختيارات شخصية» هو في الحقيقة استجابة مبرمجة لتاريخ لم يكتبه هو، وأن النجاة – إذا كان ثمة ما يُسمى نجاة – ليست نسيان هذا التاريخ، بل القدرة على حمله دون أن يستولي بالكامل على تعريف الذات. في هذه المنطقة الرمادية، بين كون الإنسان ضحية لما سبق وكونه مسؤولاً عما يضيفه هو إلى سلسلة الأذى، تقف «تنهيدة حرية»؛ لا تبشر ولا تعظ، بل تترك القارئ في مواجهة مرآة غير مريحة، يرى فيها أن أكثر ما يؤذيه قد لا يأتي من الجدار الذي أمامه، بل من الأصوات التي استقرت في داخله وهو يتعلم، دون أن يدري، كيف يعيش في عالم لا يعده بالكثير.
