أ.د عبدالستار الجميلي
المشهدان السياسي والأمني في العراق وأفغانستان، متشابهان في مقدماتهما ونتائجهما، وإن إختلفا في بعضالتفاصيل الجيوسياسية، والجيو إستراتيجية، بحكم الجغرافيةالإقليمية ومدخلات التاريخ الخاص ومخرجات التركيبة السكانية.. فقد تمّ إحتلالهما، تباعا وفي فترة زمنية متداخلة في سياقهاومعطياتها، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أفغانستان أولاوبعدها العراق.. وكانت مبررات الإحتلال متشابهة وإن إختلفتالأسماء، القاعدة وبن لادن ومحاربة الإرهاب كانت الحجة الرئيسةلإحتلال أفغانستان، فيما كانت أسلحة الدمار الشامل وعلاقةمفترضة مع إرهاب القاعدة الحجة الرئيسة لإحتلال العراق. وكانتالديمقراطية وحقوق الإنسان غطاء مشتركا في إحتلال البلدين.. ثم مسلسل الوقائع المشتركة: حكم عسكري مباشر، وهدم جميعمؤسسات الدولتين خصوصا العسكرية والأمنية، إلا ما تعلقبالمصالح الأمريكية المباشرة، وترتيب الأوضاع سياسيا وأمنياودستوريا، بما يتيح تقاسم شكلي للسلطة مع بعض أطرافالمعارضة في البلدين، وفرض بناء هش للمؤسسات العسكريةوالأمنية والمدنية، على محاصصات وتعددية في مراكز القوةوالقرار أكثر هشاشة، طائفية وعرقية بالنسبة للعراق، وقبلية وعرقيةبالنسبة لأفغانستان. ومن ثمّ فرض ديمقراطية شكلية لم تحتويمن مضامين الديمقراطية سوى ما تعلق بإنتخابات شكلية أفضتإلى مجموعة من الكتل والجماعات والإقطاعيات التي إختصرتالعراق وأفغانستان بمجموعة أسماء وعوائل، كانت تتقاسم السلطةوالثروة والوطن محاصصة بائسة، حوّلت أفغانستان والعراق إلىما أطلق عليه في القانون الدولي “ظاهرة الدولة الفاشلة“.. ماأطلق مقاومة وطنية شاملة في رفض الإحتلال وإفرازاته فيالبلدين، لكنّما المقاومة سرعان ما أصيبت بمقتل بدخول الجماعاتالإرهابية على خطّها، حيث سيطرت طالبان ذات العقيدة والمنحىالإرهابي على مقاومة الشعب الأفغاني الوطنية إلى جانب القاعدةوداعش الإرهابي، فيما سيطرت القاعدة وداعش وأخواتهما علىمشهد المقاومة الوطنية العراقية لتشوهها وتدخلها في نفق الإرهابوالتوحش. وبالتالي دخول الشعبين الأفغاني والعراقي بين رحىناري الإحتلال الذي هيمن حتى على المال العام والإرهاب بإسمالمقاومة.. وبالنتيجة تحول الساحتين الأفغانية والعراقية إلى بيئةفوضى منتجة للفساد والإستبداد الجماعي والتبعية والإقتتالالأهلي والإرهاب المتوحش وتعميم السلاح خارج إطار الدولة، ومستوردة لبضائع دول الجوار البائرة، الغذائية والصناعيةوالصحية، وممرا داعما ومسهلا للمجاميع الإرهابية من كلّ جهاتالأرض بما فيه أمريكا وأوربا.
وبعد سنوات الإحتلال العجاف، والتمزق الوطني والمجتمعيوالمؤسسي، وملايين الشهداء والمصابين والنازحين واللاجئين فيأفغانستان والعراق، بدأ الإحتلال يعيد قراءته الإستراتيجية، التيتجاوزت فيه حسابات الخسائر والتكاليف، حسابات الأرباحوالعوائد التي نظّرت له طويلا مراكز البحوث الإستراتيجيةالأمريكية وتوابعها أوربيا وعالميا، وذلك في ضوء فشل وهزيمةمشروع الإحتلال ورخاء الديمقراطية الليبرالية المزعوم، وفي ضوءالتراجع الإستراتيجي الأمريكي، عسكريا وإقتصاديا، في مواجهةروسيا والصين، والتحول المتسارع لهيكل النظام الدولي منالأحادية القطبية إلى التعددية القطبية وإستحقاقاتها التي ستعيدإلى واجهة العلاقات الدولية، بعض مشاهد وفصول الحرب الباردة، فضلا عن التمزق الأمريكي الداخلي الذي تجاوز الحزبين إلىالمجتمع الأمريكي بكامله.. لذلك لم يكن قرار الرئيس الأمريكيبايدن بالإنسحاب من أفغانستان مفاجئاً بالنسبة لسياق الوقائعفي هذا البلد الذي أتعبته حروب أكثر من أربعة عقود متصلة، فالإنسحاب المتسارع كان إقرارا مباشرا بالفشل والهزيمة لمشروعالإحتلال الأمريكي ليس في أفغانستان وحدها، ولكن في العراقأيضا، بطريقة تشي بأنها قد أعطت الضوء الأخضر لطالبان لكيتستلم مفاتيح السلطة في أفغانستان، كما تمّ تسليم السلطةللمعارضة في كابول سابقاً.. وكانت التراجيديا التي غطت مشهدالإنسحاب الأمريكي، أنّ الإدارة الأمريكية والدول التي تحالفتمعها، بدأت تبحث عن ملاجئ دائمة ومؤقتة لمن تعاونوا مع قواتالإحتلال، وتدعو طالبان المصنفة حركة إرهابية إلى التفاوض منباب إسقاط الفرض، وهي تتفرج على تقدم الحركة المتسارع، فيمشهد يُعيد إلى الأذهان منظر الهزيمة الأمريكية المذل فيفيتنام، حيث كان المتعاونون مع الإحتلال الأمريكي يتسابقون إلىالطائرات الأمريكية المُقلعة لعلّعهم يحظون بفرصة النجاة منغضب الشعب الفيتنامي الذي ذاق ويلات ومآسي الإحتلال بمايفوق الوصف.
هذا المشهد التراجيدي الدامي في أفغانستان، الذي كانمحصلة منطقية لمقدمات الإحتلال، ليس من المستبعد أن يتكرر فيالعراق إذا ما إستمرت الأوضاع الحالية دون تغيير جذريللمدخلات والمخرجات الوطنية، خصوصا وأن المقدمات واحدةوتفاصيل مشاهد المسرح متماثلة في كثير من الفصول، وداعشالإرهابي المدعوم من بعض الأطراف المحلية والإقليمية والدولية مازال ناشطاً ولو في مخابئه وعبر خلاياه الإرهابية النائمة، والسلاحمعمّم خارج إطار الدولة، وبيئة العملية السياسية الحالية منتجةلكلّ أنواع الإستبداد والفساد والتبعية، في غياب المشروع الوطنيالجامع، وفكرة الدولة وهيبتها وضروراتها ومنطقها ومحدداتهاوثوابتها، وسيادة منطق المحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة (( ديمقراطياً)) وفي جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها، خصوصاً العسكرية والأمنية التي تعدّ السياج الداخلي والخارجي للدولة.. فهلاّ يُنصت المشغولون بإنتخابات شكلية، لن تفرز أكثر منتكريس شرعية جديدة مزيفة لكتل بغداد وأربيل، قبل فوات الأوان؟. ما سيدخل العراق في مشهد تراجيدي دموي أكثر إيلاما وقسوةوإرهابا من المشهد الأفغاني، فجراحات “حرب الكل ضد الكل” لمتندمل بعد طيلة مرحلة ما بعد 2003 وقبلها، وما زالت تُنكئ بينالحين والآخر، بأصابع وألسنة محلية وإقليمية ودولية، والحكمأطلق صافرة نهاية اللعبة بإشارة حمراء.. فهلاّ تُنصتون قبل فواتالأوان؟؟؟