دراسة في موقف المرجعية العليا من الانتخابات العراقية (2003–2021)
د. عمار السهرستاني
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية في موقف المرجعية الدينية العليا بالنجف الأشرف منالانتخابات العراقية منذ عام2003 وحتى عام 2021، مسلطة الضوء على التحولات التي شهدتها العمليةالسياسية من منظور المرجعية. فقد كانت المرجعيةالدينية في السنوات الأولى بعد سقوط النظامالسابق داعمة بقوةللعملية الانتخابية، معتبرة أن المشاركة واجب شرعي ووطني لحماية العراق وتثبيتتجربته الديمقراطية. لكن مع مرور الوقت،وتفاقم الفساد المالي والإداري وهيمنة المحاصصة ، أخذالموقف يتغير تدريجيًا من الدعم المباشر إلى الدعم المشروط، وصولًا إلى الحياد الكامل في انتخابات2021.
كما تتناول الدراسة موقف المرجعية من احتجاجات تشرين2019، حين دعمت المطالب المشروعةللمتظاهرين واعتبرتها وسيلةللإصلاح، وفي الوقت نفسه دعت إلى الحفاظ على النظامالسياسي ومنعانزلاق البلاد إلى الفوضى. وتؤكد الدراسة أن حياد المرجعية الأخير لا يمثل انسحابًا من المشهد، بلرسالةتحذير واضحة إلى القوى السياسية بضرورة الشروع في إصلاحات جادة تلامس جوهر ما دعت إليهالمرجعية منذ عام2003.
النص التحليلي
منذ سقوط النظام السابق عام 2003 شكّلت الانتخابات الركيزةالأساسية لبناء النظام السياسي الجديدفي العراق، إذ جرىالتعويل عليها كوسيلة لتشكيل مؤسسات الدولة وترسيخ التجربةالديمقراطية. وفيهذه السياق كان للمرجعية الدينية العليا فيالنجف الأشرف دورًا محوريًا، إذ اعتُبرت توجيهاتهاوخطبهاالمرجعية الأخلاقية والسياسية الأهم التي التزم بها أغلبالعراقيين.
ل
قد كان موقف المرجعية في البداية واضحًا وصريحًا ، المشاركة في الانتخابات واجب شرعي ووطني. ففي بيان مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله قبيل انتخابات الجمعية الوطنية في كانون الثاني/2005 جاء التأكيد على أن «المشاركة في الانتخابات واجب وطني وشرعي لا يجوز التفريط به» (1). هذه الدعوة أسهمت في رفع نسب المشاركة ومنحت شرعية كبرى للنظام السياسي الناشئ، الذي كان بحاجة إلى غطاء شعبي واسع واضافة كبيرة للقوى السياسية الشيعية حينها.
لكن مع مرور الوقت بدأت ملامح الخلل في التجربة السياسيةالعراقية تتضح، لا سيما مع تفشي الفسادالمالي والإداريوهيمنة المحاصصة السياسية على مفاصل الدولة. هنا لم تتراجعالمرجعية العليا عندعم الانتخابات، لكنها عدّلت خطابها باتجاهالمشروطية، فأصبح الحديث يدور حول ضرورة “حسنالاختيار”لا مجرد “المشاركة”. ففي خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ عبدالمهدي الكربلائي عام 2009 ذُكر صراحة: «على الناخب أنيختار الأكفأ والأقدر على خدمة الناس لا من يتستر بالشعارات»(2). أما فيانتخابات 2014 فقد رفعت المرجعية شعارها الشهير«المجرب لا يُجرّب» (3)، كتحذير مباشر للناخبينمن إعادةانتخاب الوجوه السياسية التي ثبت فشلها وفسادها.
هذا التحول كان يعكس خيبة أمل المرجعية من الأداء السياسي،لكنه لم يصل بعد إلى حد فقدان الثقةالكاملة. إذ ظلت المرجعيةترى في الانتخابات وسيلة للتغيير، وإن كانت محاطة بمخاطروسلبيات كبيرة.
من خلال خطب الجمعة والبيانات المتكررة، كانت المرجعية العلياتؤكد باستمرار على ضرورة بناء الدولة،وترسيخ مؤسساتها علىأسس العدالة والكفاءة. كانت تحذّر من الفساد ومن تغليبالمصالح الحزبية علىالمصلحة العامة اضافة الى أن يكول للعراق استقلاليته في قراره الداخلي والدولي.
لقد كان خطابها دائمًا يقوم على تشخيص دقيق للأوضاع وتحذيرالقوى السياسية والحكومات منخطورة الاستمرار بهذا النهج،خشية الوصول إلى لحظة يصبح معها الإصلاح متأخرًا وفائتًالأوانه وكانتجملتها الشهيرة « ولات حين مندم » وجاءت في الكثير من خطبها في سياق تحذير القوى السياسية منالتمادي في الفساد وسوء الادارة وأهمال مصالح الناس وأنهم اذا لم يستجيبو للنصح والاصلاح مبكرا فسيأتي يوم يكون الندم بلا فائدة.
وفي انتخابات 2018 مثّل خطاب المرجعية نقطة انعطاف مهمة،حيث أعلنت أنها «لا تؤيد أي جهة أوقائمة أو شخص» (4). بهذاالموقف ألقت المرجعية المسؤولية الكاملة على عاتق الناخب، وأعلنتعمليًافقدان ثقتها بالأحزاب والقوى السياسية.
ولم يقتصر دور المرجعية العليا على الانتخابات وحدها، بل برزبشكل حاسم خلال احتجاجات تشرينالأول/أكتوبر 2019. فقدمنحت المظاهرات غطاءً أخلاقيًا واضحًا، مؤكدة أن مطالبالمتظاهرين محقةوأنها السبيل الطبيعي للإصلاح. وفي الوقتنفسه شددت على ضرورة الحفاظ على السلم الأهليوالمؤسساتالدستورية، محذرة من الانجرار إلى الفوضى. هذا الموقف المزدوجمنح المظاهرات شرعية،وفي الوقت ذاته حمى النظام السياسيمن الانهيار.
وفي بيان مكتب السيد السيستاني دام ظله بتاريخ 29 أيلول/2021 ، اعتبرت المرجعية الدينية العلياانتخابات 2021 المبكرة تحمل بصيص أمل للتغيير بفضل التعديل على قانون الانتخابات (الدوائرالمتعددة والترشيح الفردي). لذلك دعت إلى المشاركة الواعية والمسؤولة آنذاك، معتبرة أن صناديقالاقتراع – رغم شوائبها – تبقى الطريق الأسلم نحو الإصلاح (5)..
لكن سرعان ما تلاشت هذه الفرصة بعد أن أعادت القوى السياسية القانون القديم (الدائرة الواحدة) معإدخال بعض التعديلات الشكلية أو النسبية فقط، مما أعاد إنتاج نفس المشهد السابق وهيمنة الكتلالكبيرة.أمام هذا الواقع، وفي الانتخابات المحلية التي أعقبت انتخابات 2021، اتخذت المرجعية موقفًامختلفًا؛ إذ لم تحثّ الناخبين على المشاركة كما في الدورات السابقة، بل خيّرتهم بين المشاركة منعدمها، مؤكدة أن المسؤولية تقع على عاتق كل مواطن في تقرير مستقبل مدينته وبلده. هذا الموقفاعتبره البعض بأنه يعكس خيبة أمل المرجعية من جدوى العملية الانتخابية بعد الالتفاف علىالإصلاحات التي فرضها الحراك الشعبي، ورغبتها في أن يتحمل الشعب بنفسه مسؤولية خياراته..
ورغم حيادها الأخير، فإن المرجعية لم تتخلَّ عن دورها، بل تواصلمراقبة المشهد السياسي بدقة. وسكوتها اليوم هو في حد ذاتهموقف يجب أخذه بجدية؛ فهي المرجعية التي أسست لشرعيةالعمليةالسياسية عام 2003، ويمكنها أن تتخذ مواقف أشد إذارأت أن الانحراف الحاصل يهدد مستقبل العراق. وهذا التحذيرموجّه خصوصًا إلى القوى الشيعية التي تدّعي الانتماء للمرجعية،فهي مطالبة بأن تثبتالتزامها العملي بنصائحها وعدم الاكتفاء باطلاق الشعارات التأييدية.
واليوم ونحن على مشارف مرحلة حساسة من تاريخ العراق السياسي المعاصر ومع غياب مهم التيارالصدري والذي يعد ركيزة مهمة في العملية السياسية العراقية وكذلك السكوت التام للمرجعية الدينيةوالذي يعتقد سيكون مستمرا في هذه المرحلة ، يقف الشارع العراقي منقسمًا بين محورين:
فريق يرى أن المشاركة في الانتخابات المقبلة ضرورية لإضفاءشرعية دولية على العملية السياسية،وفريق آخر يدعو إلىالمقاطعة باعتبار أن أي مشاركة تمنح شرعية لقوى سياسية متهمةبالفساد وترسيخالمحاصصة ،وهنا يجد المواطن نفسه أمام مرحلةحساسة تتطلب وعيًا عاليًا وتشخيصًا دقيقًا للمصلحةالوطنية. فالمسؤولية الأخلاقية والوطنية لم تعد مرهونة بموقف المرجعيةوحدها، بل بوعي الشعبنفسه وقدرته على صناعة التغيير.
الرسالة الأخيرة
إن موقف المرجعية العليا من الانتخابات العراقية منذ 2003 وحتى2021 لم يكن سوى انعكاس لدورهاالأبوي وحرصها علىمصلحة الشعب والوطن. فقد دعمت العملية السياسية حين رأتفيها فرصة للتغيير،وأيّدت المظاهرات السلمية حين وجدت فيهاسبيلًا للإصلاح، ثم تبنّت الحياد حين لم تجد استجابةحقيقيةلنصائحها.
إن هذا الحياد ليس انسحابًا كما يروج له البعض في الاروقة الضيقة، ولا انسحاب من المسؤولية او تركالامور دون رعاية ، بلهي رسالة واضحة للقوى السياسية بأن الأمل بدأ يتراجع، وأنالإصلاح لم يعد يحتملالمماطلة أو الشعارات. ومن هنا فإن علىالحكومة والقوى السياسية أن تسارع إلى إيجاد إصلاححقيقيوجاد في الملفات التي أكدت عليها المرجعية مرارًا كمحاربةالفساد وإنهاء نظام المحاصصة وتمكين الكفاءات والنخبالوطنية، وإعادة ثقة المواطن بالدولة والعملية السياسية والانتخابية. وحصرا منخلال هذه الخطوات قد يكون ممكن للمرجعية أن تستعيد ثقتها بالوضع السياسي، أما من دونذلك،فسيبقى العراق في دائرة فقدان الثقة وانسداد الأفق .
المراجع والهوامش
1. بيان مكتب السيد السيستاني حول الانتخابات،كانون الثاني/2005، الموقع الرسمي للمرجعية.
2. خطبة الجمعة – العتبة الحسينية، 27 شباط 2009.
3. خطبة الجمعة – العتبة الحسينية، 25 نيسان 2014 (شعار «المجرب لا يُجرّب»).
4. خطبة الجمعة – العتبة الحسينية، 4 أيار 2018 (إعلان عدم تأييد أي قائمة أو مرشح).
5. بيان مكتب السيد السيستاني حول انتخابات2021، 29 أيلول 2021
