:
محمد عبد الجبار الشبوط
تُعدّ الآية الأولى من سورة القمر ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ من أكثر النصوص القرآنية إثارة للجدل. فالتفسير التقليدي حصرها في واقعة مادية حسية (انشقاق القمر نصفين أمام قوم النبي)، بينما ذهببعض المفسرين المعاصرين إلى اعتبارها صورة رمزية كونية.
غير أن القراءة التي نقترحها هنا تنطلق من دلالة لغوية أعمق لفعل “انشق”: ليس بالضرورة التشققالداخلي، بل يمكن أن يُفهم على أنه الانفصال عن شيء آخر. وهذا الفهم يفتح أفقًا حضاريًا–علميًا جديدًا،يربط النص بالتصورات الكونية حول نشأة القمر وانفصاله عن جرم سماوي آخر.
أولاً: التحليل اللغوي للفعل “انشق”
• الجذر “ش ق ق” واسع الدلالة: شق الطريق أي فصلها عن محيطها، شق عصا القوم أي افترقوا، شقتالمرأة الولد أي أخرجته.
• بالتالي “انشق” لا يُحصر في معنى “تصدع في الداخل”، بل يشمل الانفصال والانفكاك عن غيره.
• بناء الجملة: “انشق القمر” = القمر هو الفاعل الذي قام بفعل الانفصال. والسؤال المنطقي: عن ماذاانفصل؟
ثانياً: الإمكان العلمي – نشأة القمر
• النظريات الفلكية الحديثة (خاصة “نظرية الاصطدام العملاق”) تقول إن القمر تكوّن نتيجة اصطدامضخم بين الأرض وجسم سماوي آخر قبل 4.5 مليار سنة، فانفصلت عنه كتل شكلت القمر.
• بهذا المعنى: “انشق القمر” يمكن أن تُفهم بوصفها تذكيرًا بحقيقة كونية أصلية، لا بحدث معجزويمحلي.
• لا يقتضي النص أن يحدّد الزمن بدقة، بل يكفي أنه أشار إلى طبيعة القمر بوصفه وليد انفصال.
ثالثاً: الدلالة الحضارية–الفلسفية
1. كونيًا: القمر رمز الثبات في المخيال الإنساني، لكن الآية تكشف أنه وليد انفصال عظيم، أي أنه ليسأزليًا.
2. تاريخيًا: اقتراب الساعة يرتبط بولادة الرسالة كساعة فاصلة، بينما انشقاق القمر يذكّر أن حتى الأجرامالعظمى نتاج تحولات، فكيف بالأنظمة الحضارية؟
3. وجوديًا: الإنسان يظن أن الثوابت أبدية، لكن الحقيقة أن كل شيء قابل للانفصال والانتهاء.
4. علميًا: المعنى اللغوي (انفصال) ينسجم مع المعطيات الفلكية حول أصل القمر، بدل أن يتعارضمعها.
رابعاً: الرد على المفسرين التقليديين
• الاعتراض: لا قرينة صارفـة تمنع من المعنى الحرفي (التشقق أمام النبي).
• الجواب:
• القرينة موجودة في اللغة نفسها: “شق” أوسع من “تشقق”، ويحتمل معنى الانفصال.
• علم الفلك يقدم قرينة كبرى: القمر لم يكن مستقلًا منذ الأزل، بل انفصل عن الأرض أو جرم آخر.
• الاقتصار على المعجزة المحلية يحوّل النص إلى “خبر ظرفي”، بينما الفهم الحضاري–الكوني يوسّعمداه ليصبح رؤية شاملة.
خامساً: الأفق الجديد للفهم الحضاري
هذا الفهم يقدم لنا ثلاث نتائج رئيسية:
1. القرآن لا يقدّم مجرد “خوارق” آنية، بل يذكّر بحقائق كونية–وجودية كبرى.
2. الانسجام مع العلم لا يتم عبر “ليّ النصوص” بل عبر استثمار طاقتها اللغوية الرحبة.
3. النص يتجاوز الماضي المحدود ليخاطب وعي الإنسان الحضاري في كل عصر.
الخاتمة
إن قراءة “انشق القمر” بمعنى “انفصل عن جرم آخر” تمنح الآية بعدًا كونيًا وفلسفيًا جديدًا، يربط بينالنص والعلوم الحديثة دون افتعال. فهي تذكّر بأن الثوابت ليست أزلية، وأن حتى القمر وليد انشقاق.
وبذلك تتحول الإشكالية من صدام بين التفسير التقليدي والعلم، إلى انسجام عميق بين النص القرآنيولغة الكون.
إنها خطوة نحو الفهم الحضاري للقرآن، حيث يصبح النص أفقًا للتفكير في المصير الإنساني والتاريخيوالكوني معًا.
