“غاز مصر المسروق… من الهيمنة البحرية إلى الارتهان للأنابيب الإسرائيلية”

 

د. سهير عمارة

لا تعليق :صفقة هزّت الضمير العربي

لم يكن خبر الصفقة الجديدة بين مصر وإسرائيل لتوريد الغاز بقيمة 35 مليار دولار حدثًا اقتصاديًا عاديًا، بل كان زلزالًا سياسيًا واستراتيجيًا أعاد فتح جراح قديمة في ذاكرة المصريين والعرب.
صفقة وُصفت بأنها “تعاون إقليمي”، لكنها في الحقيقة تمثل تسليم مفاتيح أمن الطاقة المصري لعدو تاريخي احتل الأرض، وسرق البحر، ونهب الغاز، ثم أعاده لنا بثمن باهظ.

1. من بائع إلى مشتري: كيف انقلب المشهد؟

قبل عقد واحد فقط، كانت مصر تُصدّر الغاز عبر خط أنابيب “العريش–عسقلان” إلى إسرائيل، وتملك فائضًا يذهب إلى أسواق أوروبا وآسيا. لكن مع سوء الإدارة، والفساد، وتأخر تطوير الحقول، تراجع الإنتاج المحلي، بينما تقدمت إسرائيل بخطوات سريعة لاستغلال حقول الغاز العملاقة في شرق المتوسط.
النتيجة كانت صادمة: مصر التي كانت “المورّد” أصبحت اليوم “المستورد” من نفس الجهة التي كانت تعتمد علينا، وبشروط تُثقل اقتصادنا.

2. السرقة الموصوفة: الغاز الذي تغيّر عنوانه

الحقول التي تمد إسرائيل بالغاز اليوم — “ليفياثان” و”تمار” و”كاريش” — ليست بعيدة جغرافيًا عن الامتداد الطبيعي للمياه الاقتصادية المصرية.
اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية التي جرت في السنوات الأخيرة، وُقّعت دون أن يحصل الرأي العام على شرح كافٍ عن خسائرها، لكنها فتحت الباب أمام إسرائيل لتسيطر على مخزون ضخم من الغاز كان يمكن أن يكون ضمن حصة مصر.
بدلاً من اللجوء للتحكيم الدولي أو المواجهة الدبلوماسية القوية، اكتفت مصر بالصمت، ثم قبلت لاحقًا بشراء الغاز من الحقول نفسها.

3. الأنبوب الذي تغيّر اتجاهه

قصة الأنبوب بين العريش وعسقلان تمثل رمزًا للانقلاب في موازين القوة.
هذا الأنبوب بُني في الأساس لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، لكن بعد اضطرابات 2011 وتوقف التصدير، لجأت إسرائيل للتحكيم الدولي وحصلت على تعويضات ضخمة. وفي 2019، تم الاستحواذ على الأنبوب من قبل شركات إسرائيلية ومصرية مشتركة، ليُعاد تشغيله بالعكس: من إسرائيل إلى مصر.
هكذا تحوّل رمز السيادة إلى رمز التبعية.

4. ثمن لا يقال: أرقام تكشف الحقيقة

وفق تقارير دولية، يبلغ سعر الغاز في هذه الصفقة حوالي 7.6 دولار لكل مليون وحدة حرارية، وهو سعر أعلى من أسعار غاز دول كبرى مثل روسيا عندما كانت تبيع لأوروبا عبر “السيل الشمالي”.
الأدهى أن مدة الصفقة تصل إلى 15 عامًا، مع التزام مصر بشراء كميات ضخمة تصل إلى 130 مليار متر مكعب، تبدأ من 20 مليار عام 2026 لتصل لاحقًا إلى 110 مليار بعد توسعات الحقول وخطوط الأنابيب.
هذه الأرقام تعني أن مصر ستكون أسيرة لهذه الإمدادات لعقود.

5. الأبعاد السياسية: الغاز كسلاح ضغط

الصفقة لا يمكن فصلها عن السياق السياسي. إسرائيل الآن تمسك بخيوط حيوية في الاقتصاد المصري. أي خلاف سياسي أو أمني يمكن أن يتحول في لحظة إلى تهديد بوقف الإمدادات أو تعديل الأسعار.
بهذا، لم تعد إسرائيل بحاجة لخوض حروب لتحقيق السيطرة، فقد حققتها عبر الأنابيب والعقود.

رأي الكاتب: عندما تتحوّل الثروات إلى سلاسل في أعناقنا

ما يحدث اليوم ليس خطأً عرضيًا أو سوء تقدير لحظي، بل هو نتاج مسار طويل من التفريط الممنهج في حقوق مصر وثرواتها. نحن لا نتحدث عن “صفقة تجارية” باردة الأرقام، بل عن خيانة استراتيجية تم تقنينها في عقود واتفاقيات، وتحويلها إلى أمر واقع.

لقد جُرّدنا من الغاز الذي كان تحت أقدامنا وفي مياهنا، ليس عبر حرب عسكرية كما حدث في 1967، بل عبر حرب توقيعات وأختام، حيث انتقل الحق من خرائطنا إلى خرائطهم بخط قلم، وبغطاء من تبريرات “التعاون” و”المصلحة المشتركة”.

هذه الصفقة هي الإعلان الرسمي عن أننا أصبحنا زبائن في أسواق من كانوا بالأمس ينهبوننا. والأسوأ أننا سندفع لهم من جيوبنا، ونمول اقتصادهم، ونقوي مراكزهم التفاوضية أمام العالم.

أي دولة تفرط في ثرواتها الطبيعية بهذه الطريقة، وتحوّل نفسها من منتج مستقل إلى مستورد من عدو، هي دولة تتنازل عن جزء من سيادتها، حتى لو رفعت الشعارات الرنانة عن الاستقلال. فالسيادة لا تُقاس بالكلمات، بل بالقدرة على التحكم في مواردك الأساسية.

اليوم الغاز، وغدًا الماء، وبعده الغذاء، إلى أن نصبح رهائن في قبضة من يعرف كيف يستخدم احتياجاتنا كسلاح.
إن قبول هذه الصفقة هو قبول بأن تكون يد تل أبيب على صمام الطاقة المصري، وأن يُدار أمننا القومي من خارج حدودنا.

أقولها بوضوح:
هذه ليست صفقة، بل اتفاق إذعان. ليست تجارة، بل رهنٌ للمستقبل. وليست تعاونًا، بل استسلام اقتصادي مغلف بالشعارات.
وكل من وقّع، ووافق، وبارك، يتحمل وزر أن الأجيال القادمة ستعيش على أنفاس أنبوب يأتي من أرض مغتصبة، بدلاً من أن تنعم بخيرات أرضها وبحرها.

الملحق التوثيقي: ما وراء الصفقة بالأرقام والخرائط
1. حقول الغاز:
• ليفياثان: أكبر حقل غاز في شرق المتوسط، يقدّر احتياطيه بـ 22 تريليون قدم مكعب، تديره شركة Chevron الأمريكية وNewMed الإسرائيلية.
• تمار: احتياطيه 10 تريليون قدم مكعب، بدأ الإنتاج فيه عام 2013.
• كاريش: احتياطيه 1.8 تريليون قدم مكعب، يشكل جزءًا من النزاع مع لبنان.
2. خطوط الأنابيب:
• العريش–عسقلان: كان ينقل الغاز المصري إلى إسرائيل حتى 2011، ثم انعكس الاتجاه منذ 2019.
• خط جديد قيد الإنشاء لزيادة الإمدادات بعد 2026.
3. الاتفاقيات:
• اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وإسرائيل عامي 2010 و2018 فتح المجال لاستغلال الحقول من قبل تل أبيب.
• صفقة 2025 بقيمة 35 مليار دولار لتوريد الغاز حتى 2040.
4. الشركات المستفيدة:
• Chevron (أمريكية) – المشغل الرئيسي للحقول.
• NewMed Energy (إسرائيلية) – شريك رئيسي.
• شركات مصرية دخلت كشركاء في إدارة أنبوب العريش–عسقلان.


الخاتمة

إن استيراد الغاز من إسرائيل ليس مجرد صفقة تجارية، بل هو وصمة على جبين أمة كانت يومًا تقود المنطقة بمواردها وإرادتها. كيف نقبل أن تتحول مصر، التي كانت تبيع الغاز وتفرض شروطها، إلى مشترٍ يفتح خزائنه لخصم الأمس؟! إن ما يحدث ليس اقتصادًا، بل استسلام مغلف بورق الصفقات، ودفعٌ لأثمان سياسية قبل أن تكون مالية. وإذا صمت الشعب اليوم، فسيأتي الغد الذي نصحو فيه على مزيد من التبعية، وحينها لن تنفعنا كل المبررات ولا الشعارات

الإمضاء:
✍️
“كلمة الحق لا تُشترى… ولا تُباع”


مشاركة المقال :