د.عادل جعفر
استشاري الطب النفسي
كان الشتاء قد بدأ يلفّ بغداد بردًا قارسًا، والهواء البارد الذي يعصف بالمدينة كان يحمل في طياته غبارًا خفيفًا من الرمال، بينما الأمطار تتساقط بغزارة على الشوارع المبللة. الأضواء الخافتة لمصابيح الشوارع تتراقص في الزجاج المغبّر للمقاهي، وكأن المدينة نفسها تحاول إيجاد مأوى من ذلك البرد القارس. كان حي الكرادة داخل، حيث تسكن نورهان، يعج بالحياة رغم الشتاء، رغم أن الظلال التي تزين أزقة الشوارع تُخفي الكثير من الأسرار.
نورهان، الشابة البالغة من العمر 26 عامًا، كانت تجلس في شقتها الصغيرة، تنظر من النافذة إلى حركة السيارات التي تعبر شارع الكرادة الرئيسي. فكرها مشتت، وهي لا تستطيع التخلص من الشعور الغريب الذي سيطر عليها منذ أيام، عندما بدأت تفقد ساعات، وأحيانًا أيامًا كاملة من ذاكرتها. كانت تشتبه بأن شيئًا ما كان يحدث في عقلها، حتى أنها بدأت تتساءل ما إذا كانت أصيبت بالخرف المبكر، كما حدث مع جدتها قبل سنوات. لكن الذاكرة الضبابية لم تكن وحدها ما يزعجها؛ كانت هناك هواجس أكبر تزعجها أكثر. الشعور بأن ذاكرتها تُسرق، أن هناك شيئًا غير مرئي يقتحم عقليها.
في تلك الليلة، بينما كانت تجلس في غرفتها المغلقة، قررت أن تخرج إلى مكتبة شارع السعدون، وهو المكان الذي كانت تزوره منذ صغرها. كلما شعرت بالحيرة أو الضياع، كانت تجد في الكتب ملاذًا وآملًا للنجاة من تلك الفجوات في الذاكرة. تجولت في شارع السعدون المزدحم بمقاهيه ومكتباته القديمة، ثم دخلت إلى مكتبة الفراهيدي، التي كانت واحدة من أقدم المكتبات في المنطقة. كانت رائحة الكتب القديمة تنبعث منها، ورق أصفر مدوّن عليه كلمات تختزل تاريخًا طويلًا.
كانت تتصفح بين الأرفف عندما وقع نظرها على كتاب قديم كان مغلفًا بالغبار. لم تعرف كيف جذبها الكتاب، لكنه كان بعنوان غريب: “أسرار مجهولة: اختراق الذاكرة في العصر الحديث”. لم تكن قد سمعت عن هذا الكتاب من قبل، ولكنها بدأت تقرأ بدايته في صمت، وكلما تقدمت في القراءة، بدأ قلبها ينبض بقوة. الكتاب كان يتحدث عن تقنيات سرية كانت تستخدم لتحوير الذاكرة، ولم يكن ذلك غريبًا تمامًا؛ فكثير من الأبحاث قد أظهرت استخدام بعض الأنظمة لمحاولة السيطرة على الذاكرة البشرية. ولكن الكتاب كان يحتوي على تفاصيل غريبة عن محاولات من أجل مسح ذاكرة الشعوب.
بعد ذلك، قررت نورهان أن تذهب إلى مكتبة الرشيد في الشارع نفسه، حيث تذكر أن هناك كتبًا قديمة مخبأة هناك عن تاريخ العراق المعاصر. كانت المكتبة تقع في زاوية شارع الرشيد، مكان يعجّ بالحركة، حيث التاجر يجوب الطريق والمارة يتنقلون بسرعة. كانت مكتبة الرشيد تزدحم بالكتب التاريخية التي تخص تاريخ العراق الحديث. دخلت، وأخذت تنظر إلى رفوف الكتب الممتدة على طوله، ثم وقع نظرها على كتاب آخر. “أيامنا المفقودة: الصراع على الذاكرة ”. كانت هذه المرة متأكدة أن هذا الكتاب يحتوي على المعلومات التي تبحث عنها.
قرأت فيه فقرة لفتت انتباهها: “منذ بداية القرن العشرين، تسعى بعض القوى إلى استهداف هوية بعض الشعوب التي تعيش في هذه المنطقة، وقد أُجريت تجارب سرية لاختراق ذاكرة الأفراد بشكل ممنهج، من خلال أدوات وتقنيات تكنولوجية حديثة. هذه التقنيات لا تترك آثارًا مرئية، لكنها تخلق فجوات في الذاكرة، تدمر قدرة الفرد على استرجاع الأحداث الحقيقية التي مر بها.”
تخشى نورهان أن يكون هذا ما يحدث لها، وأن ذاكرتها قد تكون ضحية لتجربة سرية غير معروفة. كانت تفكر مليًا في والدتها التي اختفت في ظروف غامضة قبل سنوات. في تلك اللحظة، أدركت أنها قد تكون جزءًا من لعبة أكبر بكثير من مجرد فقدان الذاكرة.
في اليوم التالي، وبينما كانت تمشي في شارع المتنبي، الحي التاريخي المعروف بالمكتبات التي تحتوي على كتب نادرة وأدب كلاسيكي، دخلت إلى مكتبة الجاحظ، تلك المكتبة الشهيرة التي تجذب الباحثين والقراء على حد سواء. كانت رائحة الورق القديم تداعب أنفها، وأصوات محادثات الزوار والباعة تعلو في المكان. وبينما كانت تمشي بين الأرفف، كانت تفكر فيما اكتشفته، خاصة أن الكتاب الأخير الذي قرأته ذكر شيئًا غير متوقع عن الدول التي كانت تُشرف على تنفيذ برامج سرية لتغيير الذاكرة الجماعية.
بينما كانت تستعرض إحدى الكتب على الرف، وقعت يدها على كتاب صغير الحجم، مغلف بالجلد البني. كان عنوانه غامضًا: “ذكريات مسحها الزمن: من يحكم ذاكرتنا؟”. هذه المرة، كان الكتاب يحتوي على تفاصيل مرعبة: أن هناك شكوك تحوم حول برنامج سري يتم تنفيذه من قبل دولة جارة، يهدف إلى محو الذاكرة الوطنية للعراقيين، وتحويلهم إلى كائنات بلا ماضٍ أو هوية. تزايد قلبها اضطرابًا، وبدأت رؤيتها تتداخل. هل كان هذا هو السبب وراء فجوات ذاكرتها؟
في تلك اللحظة، فهمت نورهان أن هذا الهجوم على الذاكرة لم يكن مجرد حدث عارض أو اضطراب نفسي، بل كان جزءًا من عملية ممنهجة تم تنفيذها على نطاق واسع، كان الهدف منها هو محو الهوية العراقية. وفي الوقت الذي كانت تحاول فيه استعادة ما فقدته، أدركت أن الذكريات التي تختزنها قد تكون هي الوحيدة القادرة على إنقاذها.
مع مرور الأيام، كان الذعر يتسلل إلى قلب نورهان أكثر فأكثر، وكانت فجوات ذاكرتها تتسع، كلما قرأت المزيد من الكتب التي وجدت في مكتبات بغداد العتيقة. لكن شيئًا ما كان يزداد وضوحًا في ذهنها، شيئًا كان قد غاب عن وعيها تمامًا: لم تكن هي الوحيدة التي تعاني من هذا الانقطاع في الذاكرة. كانت تشير كل الأدلة إلى أن الشعب العراقي بأسره كان ضحية لهذه المؤامرة.
وفي تلك الأيام، وبينما كانت تعود إلى منزلها في حي الكرادة داخل في الليل البارد، لفت انتباهها شخص غريب. كان يحمل في يده ورقة صغيرة، وقد اقترب منها بخفة. همس في أذنها بصوت منخفض، “أنتِ لستِ وحدكِ في هذا الأمر، فلا تقلقي.”
كانت تلك الكلمات بمثابة صدمة لها. نظرًا لحجم المؤامرة التي اكتشفتها، فقد بدأت تشعر أن هناك شبكة من الناس الذين يعملون خلف الكواليس، وأن هذه المؤامرة لم تكن مجرد حادث فردي. كانت جزءًا من خطة أوسع تهدف إلى محو الهوية الوطنية للعراقيين وتحويلهم إلى أفراد بلا ذاكرة، بلا ماضٍ.
لكن المفاجأة الكبرى كانت في اليوم التالي، عندما قررت أن تذهب إلى مقهى صغير في شارع المتنبي. في زاوية المقهى، كان هناك رجل مسن يرتدي نظارات سميكة وقميصًا قديمًا، وكانت ملامح وجهه تكشف عن تجاعيد الزمن. عندما رآها، أشار إليها بأن تجلس بالقرب منه. قال لها: “أعرف ما تمرين به. أنا أمر بنفس التجربة . ليس أنتِ فقط من تعاني، بل نحن جميعًا. مؤامرة محكمة، أنهم يحاولون محو ذاكرتنا جميعًا. ولكن هناك من يقاوم. سنعيد ذاكرة الجميع.”
في ذلك اليوم، فهمت نورهان أن لديها خيارًا واحدًا فقط: أن تتعاون مع هؤلاء الذين يعرفون الحقيقة. لقد كانوا يطلقون على أنفسهم “الذاكرة الجماعية”؛ مجموعة من المثقفين والمفكرين والناشطين العراقيين الذين اكتشفوا هذا الهجوم على الذاكرة، وكانوا يعملون في السر لإيقافه.
كلما كانت نورهان تتواصل معهم، كانت تكتشف أسرارًا أكثر حول كيفية تأثير هذه القوى الخارجية على ذاكرة الجميع . كان هذا الهجوم يشمل أشياء أكثر من مجرد فقدان الذكريات الشخصية، بل كان يستهدف الوعي الجمعي العراقي بأسره. كان الهدف هو أن يفقد الشعب العراقي ارتباطه بجذوره، ليصبح عالة على العالم الخارجي ويخضع لتوجيهات قوى خارجية.
لم تكن تلك الفجوات في الذاكرة مجرد مرض، بل كانت جزءًا من برنامج مصمم لتدمير الهوية الوطنية. هذا ما اكتشفه الجميع، وليس نورهان وحدها.
ومع مرور الوقت، بدأت المجموعة تكشف الحقائق تدريجيًا للجمهور، من خلال نشر الكتب والمقالات والأدلة التي تدين المخطط الذي كانت تقوم به الدولة الجارة لتدمير ذاكرة الشعب العراقي. تجمّع الناس في كل أنحاء بغداد؛ من المثقفين والطلاب إلى العاملين في الأسواق، ليتحدثوا عن حقيقة ما كان يحدث. بدأ الشعب يعي حجم المؤامرة التي استهدفت هويتهم الوطنية، وبدأوا يرفضون تلك المحاولات للسيطرة على ذاكرتهم.
لم يكن الأمر مجرد احتجاجات أو حملات توعية، بل أصبح حركة جماهيرية. بدأ الناس في بغداد والمدن العراقية الأخرى في إعادة بناء ذاكرتهم الجماعية. شوارع بغداد التي كانت تغلفها الضبابية والبرودة أصبحت الآن مليئة بالأمل. المكتبات العتيقة التي كانت تحمل ذكريات الزمان الغابر بدأت تشهد إعادة الإحياء من جديد.
كان صوت الشعب أعلى من أي وقت مضى، كان هؤلاء الأشخاص، الذين يواجهون فقدان ذاكرتهم بشكل يومي، يقاومون بشدة. ومع الوقت، بدأت نورهان نفسها تشعر بتعافي ذاكرتها، لكنها لم تكن وحدها. لقد بدأ الجميع يتذكر، ومعهم استعادت بغداد جزءًا كبيرًا من روحها. كانت حركة الذاكرة الجماعية، التي تم تفعيلها من خلال الشعب نفسه، هي المفتاح لاستعادة الذاكرة الفردية والجماعية، ولإيقاف المؤامرة التي كانت تهدد كرامتهم وجودهم و روح المواطنة فيهم.
كان الشتاء قد بدأ يزول، والربيع العراقي قد أطلّ من جديد، حيث كانت بغداد تستعيد هويتها من بين يدي الذين حاولوا سرقتها.
كانت بغداد، في قلب الشتاء القاسي، مكانًا يعكس تضارب مشاعر نورهان. بين الأضواء الخافتة التي تنير الشوارع المبللة، وبين البرودة التي كانت تتغلغل في قلبها، كانت تكتشف شيئًا مرعبًا. لكن ما جعل خوفها أكثر إرباكًا هو أنها كانت تشعر، بشدة، أن ذاكرتها، مهما ضاعت، قد تكون هي مفتاح إنقاذ العراق نفسه.
وهكذا، في ذلك الشتاء البغدادي، كانت نورهان تقف عند مفترق طرق: بين استعادة ذاكرتها وبين مواجهة حقيقة مخفية عن وعيها، ولا تعلم إذا كانت ستتمكن من النجاة منها أو ما إذا كانت ستختفي تمامًا مثل كل تلك الذكريات المفقودة.
13jh34