تأثير المسرح على الفن

فلاح الكلابي

المسرح هو جوهر التمثيل الحقيقي، فهو ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل تجربة إنسانية عميقة تصقل الموهبة وترتقي بها إلى مستويات من الإبداع يصعب الوصول إليها دون المرور بمراحله الصارمة. في شبابي، درست المسرح لفترة، لكنني لم أكمل الطريق، ورغم ذلك، ما زلت أتذكر جيدًا ما كان يقوله الأساتذة: “الممثل المسرحي لا يؤدي الدور، بل يحيا داخله.” هذه العبارة ظلت عالقة في ذهني، ومع مرور السنوات، بدأت ألاحظ كم هي صادقة، فالممثل الذي مر بالمسرح يختلف تمامًا عن ذلك الذي لم يخضع لتجربته القاسية والمثرية في آن واحد. المسرح لا يمنحك فقط مهارات الأداء، بل يعلمك الانضباط، الصبر، والقدرة على خلق شخصية من العدم، لتصبح كيانًا نابضًا بالحياة وليس مجرد كلمات تُلقى على خشبة أو أمام كاميرا.

في المشهد الفني العراقي، يظهر هذا الفارق بوضوح، حيث نجد ممثلين لم يمروا بهذه التجربة، فتبدو أدوارهم متشابهة مهما اختلفت الشخصيات، بينما يبرز أولئك الذين مروا بالمسرح وصقلوا مواهبهم ليصبحوا قادرين على امتلاك المشهد بكل تفاصيله. من بينهم الفنان القدير حسن حسني، الذي أثبت في مسلسل سحر أسود أن الممثل الحقيقي ليس من يكتفي بحفظ النص، بل من يحمله في صوته، حركاته، نظرته وحتى لحظات صمته. ما فعله حسن حسني في هذا العمل كان أكثر من مجرد تمثيل، لقد كان درسًا في الحضور الطاغي، في القدرة على قيادة المشهد دون صخب، وإجبار الجمهور على تصديقه دون الحاجة إلى مؤثرات بصرية أو مونتاج معقد. هذه القدرة لا تأتي من فراغ، بل من سنوات من العمل المسرحي، من الوقوف على الخشبة مرارًا حتى يصبح الأداء جزءًا من الممثل لا يمكن فصله عنه.

هذا لا يقتصر على العراق وحده، بل هو قانون يسري في عالم الفن كله. إذا نظرنا إلى أسماء كبيرة مثل أنتوني هوبكنز أو ميريل ستريب، نجد أنهم بدأوا من المسرح، حيث تعلموا كيف يبنون شخصيات لا تُنسى، كيف يمنحون كل حركة معنى، وكيف يتعاملون مع النص لا ككلمات جامدة، بل كنبض حي. الفرق بين ممثل تدرب على المسرح وآخر لم يعرفه يشبه الفرق بين من يتعلم الكتابة على يد أديب متمرس، وبين من يعتمد فقط على الموهبة دون صقلها. المسرح هو التمرين الأصعب، لكنه الطريق الوحيد نحو الاحتراف الحقيقي، وهو ما يجعل الفنان المسرحي دائمًا أكثر قدرة على تقديم أداء خالد لا يرتبط بزمن معين، بل يظل مؤثرًا كلما أعيد مشاهدته، تمامًا كما فعل حسن حسني في سحر أسود، وكما يفعل كل ممثل صنعه المسرح قبل أن تصنعه الأضواء.