تحسين الشيخلي
في فترة الحصار الذي فرض على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي، كانت المعاناة اليوميةللأكاديميين جزءًا من أزمة وطنية شاملة طالت كافة مجالات الحياة. بالنسبة لنا كأكاديميين، كانت تلكالحقبة بمثابة اختبار مرير للصمود، حيث وجدنا أنفسنا محاصرين ليس فقط بالعزلة الاقتصاديةوالسياسية، ولكن أيضًا بفجوة معرفية تكاد تكون قاتلة.
كان الحصول على المصادر الأكاديمية، سواء كانت كتبًا أو مجلات علمية، من أصعب التحديات التيواجهتنا. المكتبات التي كانت يومًا ما زاخرة بالكتب والمراجع أصبحت تعاني من فراغ قاتل، فقد توقفتالاشتراكات في المجلات العلمية الرائدة نتيجة نقص التمويل. حتى الكتب التي كانت تصل من الخارجشحّت، ومعها اختفت فرص مواكبة التطورات في مجالاتنا المختلفة. كان علينا أن نتعامل مع مصادرمحدودة، أحيانًا تعود إلى عقود مضت، في وقت كان فيه العالم يشهد ثورات معرفية متسارعة.
إلى جانب ذلك، كانت الرواتب التي كنا نحصل عليها لا تكاد تكفي لتغطية أبسط احتياجاتنا المعيشية،ناهيك عن شراء الكتب أو الاشتراك في قواعد بيانات علمية. أتذكر كيف كنا نضطر أحيانًا لبيع مقتنياتشخصية، أو حتى مقايضة ما لدينا من كتب قديمة للحصول على مراجع جديدة. كان التعاون بينالأكاديميين هو الأمل الوحيد المتبقي لنا، حيث كنا نتبادل ما يمكننا من مراجع وملخصات، أو ننسخالكتب يدويًا إذا لزم الأمر.
ومع ذلك، فإن هذه الظروف لم تقتل شغفنا بالعلم. على العكس، كانت دافعًا للإبداع في طرق البحثوالتعليم. تعلمنا كيف نستفيد من القليل المتاح، وكيف نحول التحديات إلى فرص. كنا نجتمع فيأقسامنا لنناقش الأفكار، نحلل ما يتوفر من مصادر، ونتبادل الحوارات التي كانت بمثابة نافذة تطل علىالعالم الخارجي الذي حُرمنا منه.
الجيل الذي عايش تلك الحقبة يحمل في قلبه جرحًا عميقًا ولكنه أيضًا يحمل قوة استثنائية. نحن ندركمعنى الكفاح من أجل العلم، وندرك قيمة المعرفة التي كانت حلمًا بعيد المنال. ورغم كل شيء، فإن هذهالتجربة علمتنا الصبر وأعطتنا إصرارًا لمواصلة رسالتنا الأكاديمية رغم كل الظروف.
اليوم، ونحن ننظر إلى الماضي، ندرك أن تلك المرحلة لم تكن مجرد سنوات قاسية بل كانت مدرسة فيالصمود والإبداع. إنها تذكير دائم بقدرة الإنسان على تجاوز المستحيل حين يكون العلم والمعرفة هدفًاساميًا.
تلك التجربة تعكس واحدة من أصعب اللحظات التي واجهها الأكاديميون العراقيون خلال سنواتالحصار، حيث كانت محاولتك لإعداد محاضرة في ظل غياب المصادر تمثل كفاحًا حقيقيًا من أجل العلموالمعرفة.
في تلك الحقبة، كانت الظروف الاقتصادية والسياسية تُجبرنا على اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة. أن تضطرللتنازل عن جزء كبير من دخلك – الذي بالكاد يكفي لسد احتياجاتك الأساسية – لشراء كتاب أو مرجع منالأردن أو من أي مصدر خارجي آخر، كان تعبيرًا صادقًا عن التزامك برسالتك الأكاديمية ومسؤوليتك تجاهطلابك.
كان إعداد محاضرة في ظل تلك الظروف يعني الاعتماد على قليل من المراجع المتوفرة محليًا، أو مايمكن أن نحصل عليه من زملاء آخرين، أو حتى المذكرات القديمة التي كانت أحيانًا بعيدة كل البعد عنمواكبة التطورات العلمية. مع ذلك، كنا نبذل قصارى جهدنا لنقدم شيئًا مفيدًا وقيمًا.
القرار بشراء مصدر مهم رغم تكلفته العالية ليس مجرد تضحية مادية، بل كان تضحية من أجل الإيمانبدور التعليم في تحسين واقعنا. كنا ندرك أن المعرفة التي نحصل عليها، مهما كان ثمنها، هي استثمارفي المستقبل، سواء لمجتمعنا أو لأنفسنا كأكاديميين يسعون للبقاء على صلة بما يحدث في العالمالخارجي.
اليوم، عندما ننظر إلى الوراء، يمكننا أن نفتخر بأن تلك التضحيات لم تذهب سدى. كانت تلك السنواتبمثابة اختبار لصلابتنا ولإيماننا بدورنا كمعلمين وباحثين، وكانت تجارب مثل هذه هي التي صقلت روحالصبر والإبداع لدينا، وذكرتنا دائمًا بأن السعي للعلم هو رسالة سامية تستحق كل الجهد.
واحدة من اللحظات التي شكلت جوهر التحديات الأكاديمية في زمن الحصار، وتسلط الضوء على كيف أنالإرادة الصلبة يمكن أن تتغلب على الصعوبات الأكثر إيلامًا، هي ، عندما كنت راغباً في اعداد محاضرةلطلبة الدراسات العليا في قسم هندسة البرامجيات في الجامعة التكنولوجية عن الدور المهمللمهندسين في هذا العصر الذي بدأت ملامحه بالظهور ،حيث لم تعد التكنولوجيا مقتصرة على الحلولالهندسية فقط، بل أصبحت قوة فاعلة تغير من طبيعة المجتمعات والاقتصادات والهويات الإنسانية. وكيف أن المهندسين ليسوا مجرد ممارسين للتكنولوجيا بل مشاركون نشطون في تشكيل مستقبلالبشرية. وان فهم هذه المسؤولية يمكن أن يعزز من وعيهم عند تطوير الحلول الرقمية وتصميمالخوارزميات البرمجية وادارتهم لمشاريع تطوير وبناء البرمجيات.
لم تكن المصادر المتوفرة في المكتبات الجامعية او الشخصية كافية لتغطية الموضوع وخاصة انجميعها تعود لعصر ما قبل الرقميات .
بالمتابعة استطعت الحصول على عنوان لمصدر كان قد صدر حديثاً هو كتاب (التفكير من خلالالتكنولوجيا: المسار بين الهندسة والفلسفة) لكارل ميتشام ، وكان هذا الكتاب في حينها ذو أهمية كبيرةللمهندسين في العصر الرقمي. حيث يمكن ان يوفر إطارًا فلسفيًا عميقًا لفهم العلاقة بين التكنولوجياوالمجتمع، ويسلط الضوء على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية التي يجب على المهندسين مراعاتها أثناءتصميم وتطوير التكنولوجيا.
لم يكن الكتاب متوفر في العراق بل يجب شراؤه من المكتبات العلمية في الاردن ، ورغم علمنا كيف انهذه المكتبات كانت تستغل الوضع في العراق لتضاعف السعر الا اننا كنا مجبرين على اللجوء اليهم .
كلفت احد السائقين على خط النقل بين بغداد وعمان ، وكان هذا الصديق من حملة شهادة الماجستيرفي الفيزياء النووية لكنه ترك الوظيفة وقرر العمل كسائق من اجل ديمومة العيش ، بالسؤال عن الكتابوسعره ، وكان الجواب يمكن توفيره خلال اسبوع وكلفته (60) دينار اردني اي ما يعادل (100) دولاروكلفة نقله الى بغداد (10) دنانير اردنية أضافية ، اي ان مجمل الكلفة هي (117) دولار امريكي بما يعادلاكثر من (200000) دينار عراقي !!!
ذهبت الى رئيس القسم المرحوم الدكتور سعد شعبان وكانت حاضرة معنا الدكتورة هيام الياسري ( وزيرة الاتصالات الحالية) حيث كانت زميلتنا في التدريس في القسم ، وطلبت منه المساعدة في شراءالكتاب لكنه اعتذر بسبب عدم وجود تخصيصات .
كان دخلي الذي احصل عليه من التدريس لا يتجاوز ( 100000) دينار عراقي اي لا يغطي نصف الكلفة ( مع البقاء شهر كامل بدون مصروف) . وبعد يومان من المعاناة النفسية والصراع بين حلم الحصول علىالكتاب والواقع المر ، التقيت الصديق المرحوم الدكتور ( عبد الحليم الحجاج) الذي كان يشغل منصبوكيل وزير الاعلام والمشرف على مشروع كنت اساهم فيه مع زملاء اخرين هو مشروع ( التلفزيونالكابلي) وعرضت عليه الامر ، فما كان منه الا بصرف المبلغ وتسجيله على المشروع كمصدر معرفي .
لا استطيع وصف الفرحة التي غمرتني بعد ايام عندما اصبح الكتاب بين يدي واعددت المحاضرة التي لمتستغرق في عرضها سوى اقل من ساعتين ، لم يدرك الطلبة في حينها خلفيات الحصول على مصدرهالكنها كانت محاضرة مهمة لازال العديد منهم يستذكرها ويذكرني بها .