د. هيثم الزبيدي
◄ الضوضاء الإعلامية القطرية، بما يوحي بأن الدوحة وقناتها مع الفلسطينيين وحزب الله والإيرانيين، لا شك أنها لم تمر على الإيرانيين؛ فهم لا يثقون بما يقوله القطريون أو مؤسساتهم الإعلامية
هذا الوضع المرتبك ليس في صالح قطر. إنه يترك لإسرائيل فسحة زمنية من بضعة أسابيع تسمح لها بأن تبادر وتطور الأزمة بشكل كبير يفوق وضعها الخطير الراهن. وقد ترى الدوحة أنها على محك سياسي قلق أيا كان موقفها. فلإسرائيل حساب مع قطر لم تتم تصفيته، ولإيران ما يكفي من الخبرة الإقليمية كي لا تثق بالقطريين ولا تأخذ ما يقولونه على أنه حاسم ولا رجعة فيه.
حساب الإسرائيليين مع قطر مفتوح لاعتبارات كثيرة؛ لا تزال الدوحة مقر حماس الرسمي ومحل إقامة ما تبقى من قياداتها. وهي الدولة المسؤولة عن تمويل حماس على مدى سنوات بمئات الملايين من الدولارات تحولت إلى رواتب لمقاتلي الحركة وأنفاق تحت غزة وربما إلى أسلحة. ولو سعت حماس إلى إقامة وزارة إعلام خارج غزة، فإنها لن تتمكن -مهما بذلت من جهد- من الإتيان بأفضل من الجزيرة. فالقناة لا تتوقف ولو للحظة عن تغطيتها للحدث الفلسطيني. بل ابتكرت صيغا جديدة لتقطيع شاشتها إلى 6 شاشات سوية كل واحدة منها مخصصة لتغطية جانب من الحرب أو لقاءات وتعليقات، ووسعت رقعة التغطية ومهمتها بأن أضافت حرب لبنان. لا نعرف على وجه التحديد كم تكلف الجزيرة شهريا، لكن من المؤكد أن المبلغ لن يقل عن الدفعة الشهرية التي كانت ترد من قطر إلى حماس قبل اشتعال الحرب. حرب الجزيرة على الهواء تستهلك أكثر من رواتب مقاتلي حماس الشهرية. وإذا أضيفت المواقف السياسية لقطر التي تأتي على لسان أميرها أو رئيس وزرائها، أو على الأقل ما يقولانه في العلن وليس ما يتم تداوله في الاجتماعات المغلقة مع المخابرات الإسرائيلية والمصرية والأميركية، فإن الحساب يصبح ثقيلا.
الإسرائيليون أيضا لن يستهينوا بموقف الجزيرة الداعم لحزب الله. سيفترضون أن المشاهد العربي بذاكرة ضعيفة وأنه نسي ما كانت تقوله القناة عن حزب الله وحسن نصرالله في سنوات العداء بين قطر والحزب بسبب الحرب الأهلية السورية. على الشاشة الآن بطولات حزب الله في التصدي للعدوان الإسرائيلي على لبنان، وليس جرائم الحزب في سوريا. الجزيرة احتفت بحسن نصرالله بما يتجاوز بأشواط احتفاءها بإسماعيل هنية حين أقدمت إسرائيل على اغتياله في طهران. محللو الجزيرة انتقلوا الآن إلى الحديث عن تكتيكات الحزب وانتصاراته في جنوب لبنان أمام القوات الإسرائيلية بنفس طريقة إنكار حقائق الدمار على الأرض الذي مارسه المحللون طوال حرب غزة. صحيح أن القيادة القطرية أبقت تصريحاتها المتعلقة بالملف اللبناني ضمن العموميات عن ردع العدوان الإسرائيلي كي لا تظهر بمظهر المؤيد لحزب الله، إلا أن الأمر سيان عند الإسرائيليين طالما أن القناة وقطر تمارسان تعبئة منهجية على مستويين. المستوى الأول، هو إقناع الفلسطينيين واللبنانيين بأن الدمار الذي ألحقته بهم إسرائيل هو مرحلة من مراحل الحرب وأن قادتهم الذين تمت تصفيتهم بتعاقب لافت، لن يؤثروا بغيابهم على مسيرة الحرب. المستوى الثاني، هو التعبئة الشاملة في المنطقة ضد إسرائيل وإبقاء زخم التوتر السياسي لدى الشعوب والأنظمة على حد سواء.
هذه الضوضاء الإعلامية القطرية، بما يوحي بأن الدوحة وقناتها مع الفلسطينيين وحزب الله والإيرانيين، لا شك أنها لم تمر على الإيرانيين. الإيرانيون لا يثقون بما يقوله القطريون أو مؤسساتهم الإعلامية. سبق وأن اختبروهم في لبنان وسوريا وشاهدوا كيف يمكن أن ينقلبوا على حلفائهم، ليس فقط إعلاميا وبالمقاطعة السياسية، بل أيضا بالوصول إلى تمويل معارضي الأسد بالمليارات، وتزويدهم بأسلحة انتهت بألّا تضرب قوات الأسد فقط، بل مقاتلي حزب الله والحشد الشعبي العراقي والمستشارين الإيرانيين. استدعى الإيرانيون ذاكرتهم القريبة في سوريا ولبنان، واستدعوا ذاكرتهم الأبعد عندما كانت قناة الجزيرة تقف مع العراق ونظام صدام حسين بما يشبه وقفتها الآن مع حزب الله وحسن نصرالله. كانت حرب الاستنزاف أواخر التسعينات ومطلع الألفية تشن على العراق انطلاقا من قاعدتي العديد والسيلية في قطر. ثم تمت إدارة حرب إسقاط النظام العراقي عام 2003 من تينك القاعدتين، لترصد شاشة الجزيرة الطيران الأميركي الذي يسدد ضرباته في بغداد بعد أن كان قد أقلع من على بعد كيلومترات قليلة من مقر القناة.
◄ الولايات المتحدة لم ترسل الآلاف من جنودها والمئات من طائراتها وصواريخها إلى قاعدة العديد منذ ربع قرن لكي تتردد في استخدامها إذا دعت الضرورة
هذا الاستدعاء للذاكرة من الواضح أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قد أثاره في الدوحة، أولى محطات جولته الخليجية الأخيرة. استفز كلام الوزير الإيراني القطريين إلى حد أن رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني أكد شخصيا أن قاعدة العديد لن تستخدم في ضرب أي من دول المنطقة. لا شك أن السيناريو الذي يتصوره الإيرانيون يمر باستخدام القوات الأميركية ما يتوفر لديها من سلاح ورصد وقيادة عمليات في القاعدة، فيما إذا وجدت نفسها بوضع يستكمل الهجوم الإسرائيلي المحتمل على إيران انتقاما من الضربات الصاروخية الإيرانية الأخيرة. حتى “البطة العرجاء” في واشنطن جعلت من الواضح أنها لن تقف “عرجاء الرجل” أمام رد إيراني انتقامي على إسرائيل أو دول المنطقة، خصوصا المنشآت النفطية ومواقع توليد الطاقة أو القواعد العسكرية. الولايات المتحدة لم ترسل الآلاف من جنودها والمئات من طائراتها وصواريخها إلى قاعدة العديد منذ ربع قرن لكي تتردد في استخدامها إذا دعت الضرورة. واشنطن تعلم جيدا أن الإيرانيين مستعدون لتنفيذ تهديداتهم طالما أنه صار من الواضح أن صواريخهم لن تتمكن من توجيه ضربات مؤذية لإسرائيل. وإذا أقدمت إسرائيل على مهاجمة إيران، فإن المسارات الجغرافية للهجمات، خصوصا إذا كانت الأهداف منشآت التحميل الجنوبية للنفط الإيراني، ستكون قريبة أو من خلال الأجواء الخليجية. بل إن الإيرانيين احتاطوا بتعميم التهديد ليشمل الرد على دول مجلس التعاون الخليجي ككتلة واحدة، مستبقين احتمال تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك إذا دعت الضرورة.
على أوراق التخطيط الإستراتيجي الإسرائيلي يبدو أن لاستهداف إيران أولوية. فإسرائيل استنفدت خلال الأسابيع القليلة الماضية بنك الأهداف الثمينة الفلسطينية واللبنانية وما أتيح لها من أهداف إيرانية في لبنان وسوريا. وبقتلها يحيى السنوار، تكون قد استرضت دعاة الانتقام في إسرائيل، لكنها ليست في وارد التهدئة وتخفيف إيقاع الحرب. هذا يهيئ المجال لمرحلة قادمة من التصعيد الخطير الذي يمكن أن يطال كل دول المنطقة، لكنه يبدو مقلقا أكثر لقطر التي تجد نفسها مجبرة على أن تكون طرفا في حرب لم تحسن التملص من تداعياتها مبكرا. للإسرائيليين يبدو أن عداد الانتقام قد بدأ من أول الأطراف، أي حماس، وثانيها أي حزب الله، ولا فرق لديهم إن كان ثالثها إيران أم بالنتيجة أو المحصلة قطر. هذه مواعيد تضربها إسرائيل مع بنك أهداف ثمينة وجديدة