وراء القصد
محمد السيد محسن
……
عام 2008 التقيت في لندن الفنان حمودي الحارثي الذي غادرنا قبل يومين في منفاه في مدينة دنهاخ في هولندا ، المثير باللقاء انه هو من تعرف علي حيث كان يتابع برنامج “اغلبية صامتة” الذي كنت اعده واقدمه من شاشة الشرقية. جلسنا في احد المقاهي تناولنا حديثاً شجياً حول تسونامي التغيير الذي عصف بالعراق ، وكان يستشيرني بامكانية العودة الى بغداد حيث ذاكرته وصباه ، للحصول على فرصة العودة الى الشاشة ، فاجبته وقتذاك جواباً صادماً ، وقلت له : سيتم الاحتفاء بك كنجم كبير لساعات ، ثم يضعونك في متحف النجوم ، ولا احد يمر عليك ، لان الطبقة السياسية الحاكمة لديها مشاغل كثيرة ليس من ضمها الاهتمام بالوضع الفني والثقافي والادبي في البلاد.
الحارثي صُدم للوهلة الاولى ، بيد انه اقتنع بعد اخذ وجذب من النقاش معززاً بدلائل لمن عادوا من جيله ، وعادوا بحسرة لا مثيل لها.
وبعد سماعي خبر وفاته ، بدأت استعيد بعض ذكراه واشهرها ترجمته لرسالة جاءت بها ام غانم “سهام السبتي” الى حجي راضي “سليم البصري” ، ويبدو اني لم اركز على مصطلح “ولا تيفو” وكان معناه في الرسالة ولا تبقوا ، والجملة كاملة كانت :ولا تبقوا قلقين علي ، انا بخير . هذا المصطلح تحول الى مثل عراقي يوسم به من يعاني من فقدان كل شيء ، يستخدمه العراقيون للتعبير عن شخص ليس لديه اي ابداع ، او خروج البعض من صفقة ما بدون اي غنيمة ، فيقولون :ولا تيفو.
ان هذه الاستعارة رغم سماعي واستخدامي لها طيلة عقود من الزمان ، في الحقيقة لم اكن اعلم ان مصدرها حجي راضي ، ومترجمها هو عبوسي.
اكتب هذا السرد ، لاني سمعت من البعض لغة التهكم والتقزيم لابداع حمودي الحارثي الذي لبسه “عبوسي” منذ شبابه وحتى وفاته ، ولكنه كان مثل شاعر الواحدات ، وهي حالة اشتهر بها بعض العرب العرب الذين اشتهرت لهم قصيدة واحدة او بيت شعري واحد ، وهذا البيت او القصيدة خلدته ، وربما تم استخدام ما قاله اكثر من شعراء قالوا وانشدوا ولم نحفظ من قصائدهم ولا بيتاً واحداً فمضوا وهم مشاركين فقط ولكن بدون تأثير.
كثيرون دخلوا عالم الابداع الفني والثقافي والادبي والاعلامي لاحقا. لكنهم خرجوا مثلما دخلوا ، وهناك من ترك بصمةً عند الاجيال ، وبالعودة للقليل الذي قدموه ، نجد انهم اشاعوا لغة جديدة استطاع من بعدهم ان يستخدموا ما تركوه ، وخلدوا انفسهم بظهور واحد فكانوا من الخالدين.
حمودي الحارثي كان يعيش غربة الوطن رغم ان الوطن كان يرافقه اينما حل ، ولم يشاكس ، ولم يشتك ، عاش هادئاً ، وغادر بصمت مقتنعاً بألم كبير يحز بذاته ، وترك لنا هذا العالم الذي يضج باصحاب الصوت العالي والمزورين والأفاقين والسراق.
غادر حمودي الحارثي وليس بذمته اي دينار من المال العام ، وستبقى الاجيال تتابع ما ترك من جملة تمثيلية ربما لا تتجاوز بضع دقائق مع استاذه الذي غادر قبله بسنوات عدة سليم البصري
وداعاً عبوسي ، ستبقى في القلب ، ولن ينسى العراقيون ما تركت وما ابدعت.