ضوء على جذور العلاقة العراقية البريطانية / علاء الخطيب

ضوء على جذور العلاقة العراقية البريطانية / علاء الخطيب

علاء الخطيب *

كان العراق منذ القدم محط إهتمام دول العالم لما يتمتع به من موقع جغرافي وحضارة وتراث تاريخيضارب في الاعماق, فهو موطن الحرف الأول ومسقط رأس القانون , و عاصمته بغداد  التي  ذاع صيتها فيربوع العالم ، بها جلست شهرزاد  على ضفاف دجلة تقص على شهريار حكايا الف ليلة وليلة وقصصالسندباد البحري وعلي بابا وكليلة ودمنة وغيرها وهي أرض الأنبياء والمقدسات وأرض الأحلام بالنسبةلقادة الدول، والحالمون على حدٍ سواء. يقول (المستر ريج القنصل البريطاني العام في بغداد ): أنظرُاليها كونها احدى المدن التي كان (نابليون) يزمع ان يقيم فيها مركزا لقيادته في طريقه لاحتلال الهند،ولعل البريطانيون أردكوا هذه الحقيقية, فازداد شعورهم باهمية العراق الاستراتيجية مطلع القرنالعشرين، ونظرا لموقعه الجغرافي ومركزه السوقي الذي يربطه بايران والخليج، ويجعله طريقا سريعاومختصرا تأتي منه المواد الاولية، وتعود الصناعات البريطانية عبره ثانية الى اسواق الشرق لذا دخلضمن دائرة إهتمام الحكومة البريطانية حتى من قبل أن نزول القوات البريطانية في البصرة عام 1914مبقرون .وعلى الرغم من أن العراق فقد شكل الدولة وأصبح جزءً من دولة أخرى كما أشرنا سابقاً ولكنكان يتمتع بعلاقات مع شعوب العالم لذا يمكن أن أطلق عليها مصطلح ((العلاقات غير الرسمية )), فعلىسبيل المثال كانت هناك علاقات للعراقيين مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول منذ القدموقبل تأسيس الدولة العراقية وذلك في أيام حكم المماليك والذي كان يتمتع فيه العراق بشكل منأشكال الحكم الذاتي أو الاستقلال الجزئي وبما أن هذه الدراسة تسلط الضوء على العلاقة بين العراقوبريطانيا فسوف نبحث في جذور تاريخ العلاقة بينهما.

يرجع تاريخ العلاقة بين العراق و بريطانيا الى العام 1640م حينما شوهد موظفوا و وكلاء شركة الهندالشرقية في البصرة والتي أسست لهذه العلاقة, ولو أن الشركة لم تتمكن في بادئ الأمر من ان تجد موطأقدم لها بشكل ثابت إلا أنها وجدته وثبتته بعد قرن من العام المذكور فقد اصبح وزن الشركة ملحوظاًمنذ حوالي 1775م عندما كان الإنكليز يحمون ويقودون السفن المسلحة التي يملكها والي بغداد والتيكانت ترفع العلم البريطاني. وكان الوالي في أغلب الاحيان يتصرف بايحاءات من الممثل البريطاني والذيكانت له علاقات مع شيوخ العشائر الرئسيين وكان المقيم البريطاني يمتلك سفن تحمل المدافع تجوبفي نهر دجلة و في العام1798م سمح الوالي حسن باشا بتعيين مبعوث بريطاني دائم في العراق وفيالعام 1808م عينت بريطانيا المستر ريج قنصلا في بغداد ويعتبر هذا الرجل هو أول من عمل علىتكريس الدور البريطاني في العراق وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً, وكان ريج يتمتع بعلاقات كبيرة ومهمةمع العراقيين وكانت شخصيته أقوى من شخصية الوالي العثماني فكان محط تقدير وإعجاب العراقيين, خصوصا و أن النزاع كان على أشده بين الولاة والقادة في بغداد وكانوا في تغيير مستمر , فقد شعرالعراقيون بأن المستر ريج باقٍ بقوته ولم يتغير خصوصاً حينما رؤوا أن الولاة في بغداد يلجأون اليه فيدعمهم وتثبيت سلطتهم ، فأصبح الناس كما يذكر الدكتور الوردي في كتابه لمحات إجتماعية أن الناسفي بغداد كانوا لا يقيمون وزناً لوعود بشواتهم وأعيانهم إلا إذا كانت مدعومة بضمان من المستر ريج. لقد دعمريجنفوذه في المجتمع العراقي بناءاً على دراسته لثقافة العراقيين والعوامل المؤثرة فيهمفزاد من مظاهر الابهة والفخامة باستخدامه الموسيقى العسكرية عند خروجه وعند عودته وفرض علىحرس القنصلية البريطانية زياً خاصاً فجعل أهالي بغداد يقفون على الطريق وهم مدهوشون لمنظرموكبه المهيب وأعتقدوا بأنه صاحب الكلمة المؤثرة في رسم السياسة العراقية ولعل العقل الباطنالعراقي يحمل الصورة ذاتها الى زمن قريب بأعتقادهم بالتأثير والنفوذ البريطاني في العراق , ولعل النزاعالذي حصل بين ريج وداوود باشا في العام 1820م يوضح ما ذهبنا اليه من قوة النفوذ البريطاني ولعلالعقل الباطن للعراقين على حق. ففي العام المذكور فرض والي بغداد داوود باشا ضرائب إضافية علىالصادرات والواردات البريطانية فأحتج ريج على هذا الاجراء بقوله أن للبريطانيين حقوقا أقرتهاالاتفاقيات مع العثمانيين فرد الوالي بأنه لا يعترف بأي حق للبريطانيين في بغداد وتطور الأمر ومنعتالسفن البريطانية من الدخول الى ميناء البصرة وأراد القنصل البريطاني الخروج من بغداد وحوصرتالقنصلية البريطانية بالمسلحين وحصن ريج نفسه بالجنود وكادت تنشب معركة بين الطرفين ثم حلتبعد إدراك الوالي الى حجم المشكلة فأرسل مفاوضين عنه الى المستر ريج فاستقبلهم القنصلالبريطاني بغضب وإنزعاج شديدين .

هذه الحداثة تؤكد على حجم النفوذ والعلاقة بين بريطانيا والعراقيين ومدى الصلة والتأثير لدى ريج في المجتمع العراقي لأنه كما يذكر أنه كان وثيق الصلة بأعيان بغداد وبقادة العسكر , ولعل إستقباله لمبعوثين الوالي تدلل على حجم موقعة في بغداد آنذاك. واستمرت العلاقة البريطانية العراقية بعد ذلكفعينت الحكومة البرطانية الكابتنتيلر” قنصلا جديدا في بغداد ليكون خليفة ريج في هذا المنصبوذلك في العام 1821م حاول القنصل الجديد أن يتولى الضباط البريطانيون مهمة تدريب الجيش العراقيحينما التمس رغبة الوالي في تطوير القدرات العسكرية العراقية وبالفعل أعتمد داوود باشا على بريطانيافي تسليح الجيش وجلب بعض الضباط البريطانيين امثال جورج كيبل ورفاقه لهذه المهمة لم تنحصرالعلاقة بين بريطانيا والعراقيين في التمثيل الرسمي فحسب بل تعداه الى التمثيل الشعبي فقد بعثتبريطانيا  عام 1828 المبشر المسيحي  ذائع الصيت ” انتوني غروفز”  وهو من جماعة الاخوة البليموتيين ، الذي سكن بغداد وأتصل بأهلها واصبحت له علاقات معهم ووقف معهم في زمن محنة وباء الكوليرا ,  وبنا مدارس للارمن للبنين والبنات ، وعالج المرضى ،وفي عام 1842 وصل الى الموصل القس جورج برس بادجر ممثل اساقفة ” كانتربري” ، ومطران لندن للعمل هناك .

أما على الصعيد التجاري فكانت هناك صلات بين التجار البريطانيين والعراقيين فقد ذكر “حنا بطاطو”في كتابه العراق ان البريطانيين كانوا يحضون بمعامله خاصة ومتميزة في السوق العراقية فبموجبمعاهدة الأمتيازات الانكلو عثمانية عام 1675م فقد أعفي التجار البريطانيون من الضرائب فأما البضائعالتي يقومون باستيرادها وتصديرها فلا تخضع إلا لرسم مقداره 3% بينما كان العراقيون يدفعون 7.5% ولربما تصل الى 8.5% في بغداد , وكان التجار الذين يتمتعون بحماية البريطانيين متحررين من الضرائبوالفرائض التي يفرضها الباشوات , وهذا يدلل على وجود علاقات خاصة بين العراقيين وبريطانيا , ومنجانب آخر كان البريطانيون يولون للعراق أهمية خاصة ولعل هذه السياسة كانت ذات مغزى بعيد إتضحفيما بعد فقد صرحاللورد كيرزن” في العام 1892م بأهيمة بغداد التجارية فقال: يجب أن تدخل بغدادضمن السيطرة البريطانية , وذلك بعد التقرير الذي رفعة نائب القنصل البريطاني في البصرة الذي يحملالرقم 921 للعام 1891م حيث قال إن تجارة ميناء البصرة تقع كلياً في أيدي أربع شركات بريطانية وقدأسهب لورد بريطاني آخر في خطابه الذي ألقاه في مجلس اللوردات عام 1911م فقال (من الخطأ أننفترض ان مصلحتنا السياسية تنحصر في الخليج كما انها ليست منحصرة بين بغداد والبصرة بلتتعداها وتمتد الى بغداد نفسها) , وفي العام 1909م كانوا التجار البريطانيون يجوبون بغداد.

وقد كتب نائب عراقي في البرلمان التركي في جريدةطنين” التركية وهو يتحدث عن حجم النفوذالبريطاني في العراق عام 1910م يقول: (أنى جلت بنظرك في البصرة يصدمك فوراً ألف شئ يرتبطبأنكلترا) ولعلنا نجد أثار ذلك في لهجة العراقيين ولربما شاهدت الكثير من الأميين في البصرة يتحدثونالانكليزية وذلك من آثار تلك الحقبة. وقد حملت الغرفة التجارية الأولى في بغداد أسماء 12 تاجراًبريطانيا كانوا أعضاء في تلك الغرفة تأسست في العام 1926م . ناهيك عن بعض العلاقات التي كانت بينبعض القادة العراقيين والحكومة البريطانية قبل الاحتلال البريطاني للعراق كالعلاقة التي ربطت السيدطالب النقيب عام 1913م مع بريطانيا.

يستدل  على ما سبق بأن العلاقات العراقية البريطانية غير الرسمية كانت وثيقة وممتده قبل الاحتلالالبريطاني للعراق عام 1914م , فلم يكن البريطانيون في العام المذكور قد دخلوا بلداً غريباً لا يعرفونهولم يكن العراقيون يتعرفون على البريطانيين لأول مرة بل شفع التاريخ السالف للطرفين بالتعرف علىبعضهم البعض عن كثب ولكن هذه المرة إتخذ شكل العلاقة الرسمية التي ستنظم فيما بعد بمعاهدةلترسم شكل العلاقة الرسمية بين البلدين وهي معاهدة 1922م, التي رفضها كل الوطنيون لأنها تحملصفات الانتداب ولم تكن إلا معاهدة بين طرف غازي وطرف محتل , ومن الطريف ذكره أن اللغة الرسميةفي الدوائر الحكومية العراقية منذ العام 1917م – 1920 م هي اللغة الانكليزية واستبدلت بعد تشكيلأول وزارة عراقية برئاسة عبد الرحمن النقيب .

حكم البريطانيون العراق من عام 1917 إلى عام 1958، كان موقف بريطانيا في العراق غامضاً، ومع اقتراحإعلان بغداد في مارس 1917، إلا أنَّ حق تقرير المصير لم يتحقَّق.

برز دور لندن في مملكة العراق في عام 1921 واستمر عن طريق معاهدات 1926 و1927 و1930، في 3 تشرين الأول 1932، نالت مملكة العراق استقلالها وقبلها المجتمع الدولي بوصفها دولة مستقلة، لكنَّهاظلَّت تحت النفوذ البريطاني حتى ثورة 1958.

اندلعت ثورة ضد الوجود البريطانيفي مايو 1941- بقيادة رشيد علي الجيلاني الذي نجح في طردالحلفاء البريطانيين، وأعلنت بريطانيا الحرب؛ لاستعادة السيطرة على العراق، وتمكَّنت من استعادةالسلطة، لذا عادت المملكة إلى بغداد بنفوذ بريطاني أكبر، وبعد اتحاد بريطانيا والعراق غادر البلاد رشيدعلي وأنصاره العرب.

مع وجود العراق كعضو مؤسس للأمم المتحدة عام 1945 وتوقيع المعاهدة التي استمرت 20 عاماً منعام 1948 (تحالف جديد بين العراق وبريطانيا يقوم على المساواة والاستقلال الكامل)، فقد ظل تحتالنفوذ البريطاني حتى ثورة عام 1958.

عن طريق تغيير النظام العراقي من ملكية إلى جمهورية، تغيَّرت العلاقة بين البلدين، وأصبحت العلاقاتبين العراق وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية صعبةً وحسَّاسةً، ووصلت العلاقات أحياناً إلى نقطةصراع؛ بسبب مواقف لندن من القضايا الوطنية العراقية والقضايا العربية.

كانت السياسة الخارجية لبغدادبعد ثورة 1958- موجَّهةً نحو توثيق العلاقات مع الاتحاد السوفيتيوليس بريطانيا، بصرف النظر عن انسحاب العراق من معاهدة بغداد، وانسحاب القوات البريطانية منالعراق، ظلت بغدادبصورة أساسيةفي دائرة النفوذ السوفيتي، ولكن في أوائل عام 1967، كانت هناكعلامات على التقارب والعلاقات المحدودة مع الغرب، استمرت العلاقة بين البلدين في تقلُّبات وتقلُّباتإلى أن أثار هجوم العراق على الكويت غضب البريطانيين، إذ قُطِعَتِ العلاقات الدبلوماسية بينهما،وشاركت بريطانيافي عام 1991- في حرب الخليج ضد العراق؛ لتحرير الكويت.

(Visited 14 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *