محمد الكلابي
في الأسبوع الماضي، كتب الأستاذ علاء الخطيب مقالًا بعنوان “البقاء للأقوى”، قدّم فيه قراءة فكرية جريئة لنزعة التوحش التي بدأت تهيمن على واقعنا السياسي والإنساني. انطلق من لحظة داروينية، مرّ بنيتشه، واستعرض كيف أن القوة—بكل أشكالها—تحوّلت إلى بديل عن العقل، وأداة لتبرير الغلبة بوصفها شرعية ناجزة. مقاله كان أشبه بمرآة تظهر إلى أي مدى انحدرت مفاهيم الحق والخير والجمال، أمام طغيان العضلة، وسطوة السلاح، وشهوة السيطرة.
لكن ما يستحق التوسيع هنا، ليس فقط نقد منطق القوة، بل فهمه بوصفه نظامًا رمزيًا، لا مجرد غريزة. إننا لا نعيش فقط في عالمٍ يقدّس الأقوى، بل في عالمٍ يبني المعنى نفسه على مقاس القوة. لم تعد القوة وسيلة لضمان البقاء، بل أصبحت هي نفسها معيارًا لاستحقاقه. من لا يملكها، لا يستحق أن يوجد. وهنا يبدأ الانهيار الحقيقي: حين يصبح الوجود ذاته خاضعًا لتقييم الغلبة.
نيتشه، الذي يُستحضر كثيرًا لتبرير هذا المنطق، أُسيء إليه أكثر من أي فيلسوف حديث. لم يكن يدعو إلى القوة الغاشمة، بل إلى التحرر من الأخلاق القطيعية، ومن القيود التي تمنع الإنسان من تجاوز ذاته. لكنه في المقابل، لم يكن أعمى عن مخاطر القوة المنفلتة. قال: “من يقاتل الوحوش، عليه أن يحذر ألا يتحول هو نفسه إلى وحش، وإذا نظرت طويلًا في الهاوية، فإن الهاوية تنظر إليك أيضًا.” هذه العبارة وحدها تنسف الاستخدام الساذج لفكر نيتشه، وتعيد تعريف القوة كاختبار أخلاقي قبل أن تكون تفوقًا جسديًا.
ما يُقلق اليوم ليس فقط استخدام القوة، بل هذا التطبيع العميق معها، بحيث تحوّلت إلى فضيلة. القسوة تُسمى “حزمًا”، والإقصاء يُروّج كـ”كفاءة قيادية”، والبطش يُدرّس على أنه ضرورة سياسية. القوة لم تعد لغة الطغاة فقط، بل أصبحت لغة النُخب، والإعلام، والناس العاديين. من ينجو في هذا النظام ليس الأصلح، بل الأقدر على تقمّص دور الوحش.
والمفارقة أن من يؤسسون العالم على منطق القوة، هم أول من يسقط ضحيته. نيرون، الذي أحرق روما وغنّى على أنقاضها، مات مطاردًا ومنبوذًا، وخلّده التاريخ لا كإمبراطور، بل كرمز لانهيار الإنسان حين يتأله بقوته. لقد امتلك كل وسائل البقاء، لكنه لم يمتلك سببًا أخلاقيًا واحدًا ليبقى.
وعلى الضفة الأخرى من التاريخ، وقف جاليليو—ضعيفًا، محكومًا، مهددًا بالنفي والموت—لكنه نجا ليس بقوة عضلية، بل بقوة الفكرة. أفكاره التي حُوصرت يومًا في زنزانة، أصبحت اليوم أساسًا للنظر نحو الكون. وهكذا، سقط من كان الأقوى، وبقي من كان الأعمق.
القوة قد تُخضع الجسد، لكنها لا تُقنع العقل. تصنع الخوف، لا الإيمان. تفرض الصمت، لا المعنى. من يحكم بالعنف لا يبني دولة، بل يعلّق قنبلة موقوتة على جدران كل نظام. لأن العنف لا ينتهي حين يُستخدم، بل حين يُصبح معتادًا. والخطر الحقيقي ليس في الطغيان، بل في قبوله كقدر.
إن أخطر ما في “البقاء للأقوى” أنه لا يُقصي الضعفاء فحسب، بل يُقصي الفكرة نفسها. يفرغ اللغة من معناها، ويُحيل الإنسان إلى كائن وظيفي، ينجو لكنه لا يعيش، يتحرك لكنه لا يحلم. وتتحول الحضارة كلها إلى ساحة انتظار… للضربة التالية.
نحن لا نعيش صراعًا بين الضعيف والقوي، بل بين من يبحث عن المعنى، ومن يدفنه في التراب. القوة ليست مشكلة في ذاتها، بل في لحظة تُصبح فيها القيمة الوحيدة، وتُختزل فيها الإنسانية كلها.
ولذلك، فإن من يبقى لأنه الأقوى، قد لا يعرف لماذا بقي. لأنه لم ينتصر لقيمة، بل نجا من موت مؤجل. وهذا لا يُسمى بقاءً، بل تعليقًا مؤقتًا للفناء.
الخلود لا تمنحه السيوف، بل الكلمات التي تنجو من السيوف.
