ما بعد الحداثة ومسألة الدولة/ د. رفيق عبد الله

ما بعد الحداثة ومسألة الدولة/ د. رفيق عبد الله

د. رقيق عبدالله أستاذ علم الاجتماع السياسي

كاتب جزائري

لقد فرضت ما بعد الحداثة مفهوما آخرا للدولة يتم من خلاله توسيع نطاق النظرة التقليدية للدولةكمؤسسة مركزية ومتماسكة، ويتم التركيز على التنوع والتعددية والتناقضات التي تحدد العلاقة بينالدولة والمجتمع والفرد،

وطرحت ما بعد الحداثة صفاء الهيمنة الثقافية كمفهوم مركزي محدد لمجموع هياكل الدولةوسياستها. يتم أيضًا استكشاف كيفية تأثير العولمة والتحولات الاقتصادية العالمية على السيادة الدوليةوقدرة الدولة على تحقيق أهدافها.

وفي مراوغة حداثية للمفهوم الكلاسيكي للدولة ومحددات السيادة كان تركيزها على القوى اللاحكوميةوالممارسات السياسية التي تؤثر في صنع القرار وتشكيل الدولة في حد ذاتها مما خلف تحديًا لمسألةالدولة لا كمفهوم وإنما ككيان في ما بعد الحداثة إلى تنامي الحركات النمطية والمجتمعات المدنيةوالمنظمات غير الحكومية التي تسعى من خلالها لتحقيق المطالب السياسية والاجتماعية والثقافيةخارج إطار الدولة.

كما تناول مفكرو ما بعد الحداثة الدولة كآلية للقمع والتهميش والتمييز، حيث يتم التأكيد على الهرميةوالتفاوت في القوة والموارد بين الدول والفئات الاجتماعية المختلفة ليتم توجيه الانتقادات أيضًاللبيروقراطية والتركيز الزائد على المؤسسات والإجراءات الحكومية خالصين إلى ما يعزز الاحتكار والتراكمالسلطوي وبزوغ فكرة النفوذ.

وبمراوغة مفاهيمية أخرى تم التركيز على الجوانب الثقافية والهوية للدولة في ما بعد الحداثة باعتبارالدولة تتماشى ضمن سياق مشترك في صنع الهوية الوطنية وتشكيل الانتماء الثقافي، خارج التحليلالنقدي والتفكيك وعلاقات القوة والتمييز والتعددية الثقافية بين المجتمع والدولة.

إن فهم الدولة في ما بعد الحداثة يتطلب النظر إلى التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التيتحدث في المجتمعات المعاصرة، ويتطلب التفكير بشكل نقدي في العلاقة بين السلطة والهويةوالعدالة الاجتماعية، هذا النهج اعتمد لتوسيع النظرة التقليدية للدولة وسلبياتها وتحويلها إلى مفهوميأخذ في الاعتبار التنوع والتعددية والتحولات المستمرة في العالم المعاصر.

ففي فهم ما بعد الحداثة لمفهوم الدولة في أن الدولة تتجاوز التصورات التقليدية واعتبارها كياناجتماعيًا وسياسيًا معقدًا يتأثر بالتحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي تميزالمجتمعات الحديثة،

فإذا كانت الدولة في النهج التقليدي تُفهم عادةً على أنها مؤسسة ذات سيادة تتمتع بالقدرة على فرضالقوانين وإدارة الشؤون العامة في إطار حدودها الجغرافية المعروفة. ففي ما بعد الحداثة، يتم تحديهذا التصوير التقليدي للدولة وتمثلها في أنها نظام قائم على السلطة يتم تشكيله وتأطيره بواسطةالعديد من القوى والممارسات المتشعبة كما انها ليست كيانًا ثابتًا ومستقرًا، بل هي تتأثر وتتفاعل معالقوى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتعددة التي تؤثر في تشكيلها.

وركزت ما بعد الحداثة على مفهوم مبهم  للدولة يتشكل ويشتغل ضمن قضايا الهوية والتنوع والعدالةالاجتماعية والغاية تسليط الضوء على كيفية تأثير الدولة على الفرد والمجتمع، وعلى العلاقة بين السلطةوالمواطن وتحليل الهياكل السلطوية والقوى المتداخلة في الدولة، وكذلك تقييم العلاقات بين الدولوالمؤسسات الدولية والتحولات العالمية.

إن مراوغة ما بعد الحداثة لفهم مسألة الدولة على أنها كيان معقد وديناميكي يتأثر بالعديد من القوىوالعوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية مشددة على تشكيلات الهوية والسلطة والعدالةالاجتماعية، وكيفية تشكيل الدولة وتأثيرها على المجتمعات المعاصرة أفقدها المفهوم الأهم للدولةوهو السيادة وفرضت ما بعد الحداثة وجوبية الانتقال من السيادة إلى الحوكمة والتركيز على مفهومالحوكمة بدلاً من السيادة التقليدية. باعتبار الحوكمة نهجا أكثر شمولية يشمل العديد من الفاعلينوالمؤسسات، بما في ذلك الحكومات والمنظمات غير الحكومية والشركات والمجتمع المدني. يهدفالانتقال إلى مفهوم الحوكمة إلى تعزيز المشاركة المجتمعية وتحقيق العدالة وتعزيز الشفافيةوالمساءلة.

وخلقت قطيعة  بين مفهوم الدولة والقومية وتحدي العلاقة التقليدية والذهاب إلى انفصال الدولة عنالقومية ومنه التركيز على التنوع الثقافي والهوية المتعددة في المجتمعات الحديثة، لغاية التأكيد علىأهمية احترام حقوق الأقليات وتعزيز التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة داخل الدولة.

كما أن مفهوم الدولة في ما بعد الحداثة ارتبط بالاقتصاد وبدلاً من الانخراط في النموذج التقليديللاقتصاد التنموي الحكومي، يتم التركيز على الاقتصادات اللامركزية والتعاون بين القطاعين العاموالخاص والمبادرات الاقتصادية المجتمعية، قصد تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز المساواةالاقتصادية.

كما أن ما بعد الحداثة لم تلغيب القوة كدور محوري في صنع الدولة وسيادتها منتجة قوى أخرى وتبنتأن القوة ليست حكرًا على الدولة بل تتحلى بها أيضًا المجموعات والأفراد والحركات الاجتماعيةوالسياسية والثقافية ضمن مراوغة كبرى للتفكيك لا البناء.

لقد تجاهلت ما بعد الحداثة المفاهيم المركزية لبناء الدولة ونشأتها وهي التضحية والوفاء لا كمفاهيمأخلاقية وانما كوجود ثابت في بناء ونقاشات مسألة الدولة وثبات قيمها.. ..يتبع

(Visited 16 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *