(الكشف عن الكامن في زنازين الصمت)
احمد غانم عبد الجليل
ترتكز رواية “حبانجي” للروائي السوري نصار الحسن علي عدة محاور تتداخل ضمن الإيقاع الحياتيلمدينة “الحسكة” السورية، بما لها من خصوصية ذات نمط عشائري يعزز سمة الانغلاق التي يعاني منهاالمجتمع عمومًا ضمن نظام الحزب الواحد، اختارها الكاتب لتكون مسرح الأحداث من قبل انتقال الراوي(الشخصية المحورية) ووالدته إلى مدينة انتمائه العائلي، حيث يمتلك والده المتوفى مكتبه كمحامٍمعروف وصاحب مكانة اجتماعية مرموقة، رغم ذلك يعمل البطل لدى مكتب صديق والده كي يكتسبالخبرة اللازمة لممارسة المهنة، حيث يطَلع على حقائق يومية ذات طابع سياسي مضطرب، رغم ما يبدوعليه من استقرار، وعلى مختلف الأصعدة داخل بلد تتعدد مشاربه الفكرية والقومية والدينية والمذهبيةفي قبضة سلطوية تسود كل شيء وتؤسس لإشاعة فكر الخضوع التام منذ الصغر عبر شعارات سياسيةيرددها الجميع في كافة المجالات، تجديدًا لعهد الولاء المطلق، ودون أدنى التفاتة لما يحصل خارجإيقاع النظام الذي أوجدَ شخصية “حبانجي“، وفي المقابل لا بد من ظهور شخصية “صفاء درويش” بكلما تمثله كل منهما من تضاد داخل منظومة من الأوامر والنواهي (المؤَدلجة).
“نحن نتشبث بالحياة أكثر ممن سقط، ولا زلنا نسمع صرخاته التي يتقصد أولئك أن يُسمعونا إياها؛لنعطيهم أكثر، ويستمر التسلق والنهش في أجسادنا الضامرة بالتيه المستدام” ص117
صراع خفي ومستمر بين السلطة والشعب معتاد الانقياد، ورغم ذلك لا يتجرد نزعات التمرد تمامًا، وإنجاء عبر شخصية المحامية الشابة، أيقونة الحرية والعدالة المرفرفة فوق الجميع، بغض النظر عنالمناصب الحزبية والعلاقات المتشعبة نحو قمة الهرم السلطوي ومكائد التقارير الأمنية وقِدَم الأعرافالعشائرية، فانتهت إلى ضحية حادث دهس بسيارة مارقة دون أن يعاقب الجاني ومن يقف خلفه،فالقضية تبدو عادية جدًا ولا تدعو إلى الكثير من البحث والتقصي، خاصة مع وجود زوج لا يأبه سوىبأخذ التعويض، مع أنه هو ذاته كان يمثل آلة ضغط تقليدية ضمن أعراف اجتماعية تصادر حق المرأة فيأخذ مكانتها الحقيقية التي تستحقها، وفي الجانب الآخر تقف شخصية متملقة ومتسلطة في آنٍ واحد،تحمل كل الصفات التي تفرزها الثورات التي تؤسس للأنظمة الديكتاتورية عادةً، مخلب ضمن الكثير منمخالب البيروقراطية الحزبية ذات السيادة والنفوذ المتحكم بمصائر الكثيرين من ذوي المؤهلاتوالمناصب المرموقة، بمن فيهم القضاة الذين ألفوا الوساطة والمحسوبية كي لا يتحولوا إلى متهمين أوضحايا بدورهم.
“أيُ عالم مجنون هذا الذي نعيش فيه؟ غبي ونجس يمتلك كل القرارات المهمة، فقط لأنه أداة طيعة،ويزرع الخوف أينما حل… الخوف غير المبرر هو مَن أودى بنا إلى قعر الظلام والتهلكة، وكذلك السلبيةالمقرفة التي ترسخت فينا” ص 123
دوامة من التخبط والانكسار، يجد البطل نفسه أسيرها، وإن كانت لا تمسه بشكل مباشر، فهو ابن طبقةميسورة الحال، ومن ناحية أخرى نشأ على سياسة تدجين العقول في المدارس، وما كانت قراءاته لأوراقالقتيلة الخاصة، والتي تمثل بحد ذاتها وسيلة فضفضة لا جدوى منها داخل زنازين الصمت المُهَيمن علىالجميع، إلا بدافع الفضول، نظرًا لما عرفه عن طبيعة علاقتها بوالده، كما لو أنها من ضمن إرثه الفكريوالعبء المتناقل من كاهل جيل إلى آخر دون الوصول إلى جهة الخلاص، بينما تستمر سيارة (السلطة) المارقة في دهس أحلام ومستقبل بلادٍ بأسرها، فظل أسير الجمود ضمن الإطار التقليدي المحافظ علىالأمن والاستقرار المهني والعائلي، خاصة وأنه الوحيد من بين أخوته الذي لم يضطر إلى السفر والإقامةفي الخارج، مما جعله المسؤول بشكلٍ ما عن والدته التي تحلم ذات الحلم التقليدي لدى كل الأمهات؛زواج ابنها كي تتكرر ذات الدورة الحياتية البعيدة عن خطر التعاطي بأي فكر يحيد عن الطريق المرسوممنذ الصغر، وخاصة كل ما يجنح نحو بلوى السياسة ولو من بعيد، دون أن تعرف أن ذلك الحلم البسيطلم يعُد يتلاءم مع طبيعة الشخصية الجديدة التي آل إليها ولدها الشاب، دون دراية منه هو أيضًا.
كثيرًا ما صار يقترن الجنس بالسياسة لدينا، ونجد مثل هذا المدلول في الكثير من النصوص الأدبية، لكنتبقى طريقة التناول موضع تباين من نص لآخر، والجنس في هذه الرواية ظل مُحتجبًا عن سياق السردليتجلى في النهاية رمزًا لما يتوارى خلف الكواليس، خارج دائرة الضوء التي تضم فقط ملامح الرهبةالمطلة على العامة، بينما تتخفى الدعارة في أروقة المحاكم، داخل غرف مغلقة تكشف عن الكثير منالخبايا والزيف المتفرق بين أضابير القضايا المتشبثة بالرشى والمحسوبية والعلاقات المتوارية عنالعيون، حيث تكتمل أبعاد الصورة الممنوعة عن الظهور للعلن إلا بعد إضافة رتوش جمالية تفرضهاالأحكام الاستبدادية الماضية في انتهاج سياسة الخوف من الخطر المحدِق من قبَل أعداء الداخلوالخارج.
الجنس أيضًا يقبع ضمن الأفلام الإباحية لفتيات يتم تسويق أجسادهن، دون علم منهن، وكأن هذا ماتبقى من أحلام وآمال ثوراتنا العملاقة الساعية دومًا إلى كرامة وحرية الشعوب التي عانت طويلًا من قهرالاستعمار والرجعية…
تجارة الدعارة ارتدت نحو الداخل، ضاقت حلقة (الخفايا) تلك على المحامي الشاب حتى احتوتهبالكامل، كنوع من الهروب من هزائم وانكسارات الواقع المستباح من قبَل أعوان السلطة وأبواقهاوأذنابها المستمرة في إتباع عقوبة (السحق) لكل جانح عن القطيع، لا سيما وأنه من ضمن طبقة تأخذبالانحسار شيئًا فشيئا تحت وطأة الإقصاء والتهميش، فتحول الجنس لدى المثقف الشاب إلى إدمانيشبه إلى حد ما إدمان المخدرات والخمور، وكذلك الأفكار المتطرفة التي يلجأ إليها الكثير من الشبابكي يُحلِقوا خارج أسوار السلطات الحاكمة التي لا تهتم إلا بترسيخ الوضع القائم أكثر فأكثر، فالمهم هوالحفاظ على مكتسبات القصور السيادية المنيعة، وبذات ستار الشعارات المتسترة على مختلفالممارسات السادية بفعل شهوانية الطغيان.
“أن الحالة التي وُضعنا فيها ليست الموت، وإنما العجز عن الإتيان بما تمليه علينا إرادتنا، حينما تكونحرة” ص 221
كل الشكر والامتنان