قراءة في العرض المسرحي (سيرك ) المدن تهاجر أيضاً د. عبد الحميد الصائح

قراءة في العرض المسرحي (سيرك ) المدن تهاجر أيضاً د. عبد الحميد الصائح

 

قراءة في العرض المسرحي ( سيرك ) للكاتب والمخرج جواد الاسدي.

معبد الحميد الصائح

على الرغم من قول أحد أبطال العرض، وهو كاتب مستلب (لبيد) ل(كميلة) : “مع ذلك ستضاءُ شجرةُ الحياة في هذه المدينةِ ثانيةً ” تظل خميرة الأمل هذه غير كافية لاحتواء القسوة والخوف اللذين هيمنا على عالمٍ لاحرية فيه . ومع القسوة وانعدام الحرية هذين يكون الرحيل خياراً، ومع الرحيل يشتدّ الحنين والتردد بين مواصلة الهجرة أو قبول الوطن بلاشروط ، وهما في الحالتين البقاء والرحيل طرفا أزمة البحث عن الخلاص الفردي النفسي والجسدي معاً.

سيرك بلاحدود

يشير الحوار الذي جرى بين ( كميلة ) و (لبيد) حول الزمن والحرب والهجرة والحب ، الى واحدة من خلاصات عالم مسرحية ( سيرك ) للكاتب والمخرج العراقي جواد الاسدي ، والسيرك الدال مباشرة على عالم الترويض وتداخل الإمتاع بالمخاطرة ، في مجتمع من المهرجين، والحيوانات المدربة،وغيرهم من ذوي المهارات الأدائية. منطقة الحذر من الأخطاء القاتلة ، (في العالمِ المملُوءِ أخطاءَ، مُطالَبٌ وحدَكَ ألا تُخْطِئ)، كما يكتب عبد المعطي حجازي في مرثيته الى لاعب سيرك ،حيث تبادل الأدوار بين الحيوان الذي يروّضه الإنسان ، والانسان الذي تروضه السلطة وتختار له التهمة المناسبة لتجعله حبيسَ طاعتها والخوف منها. منشغلا بين قسوتها المباشرة وكوابيس الحروب والكوارث التي تحيق بوطنه ومدنه، فتنشأ الحكاية ، حكاية سيرك الأسدي التي كتبها واخرجها وصمم السينوغرافيا لعرضها .
ريمون وزوجته كميلة يعملان عارضين في سيرك ومعهما كلبٌ مدربٌ اسمه (دودن) يتورطانِ بحضورِ ضابط الى أحد العروض فيغضبه تصرفٌ يصدر من (دودن) غير مقصود بالطبع، لكنه يصر على قصدية الإهانة ويجعل ذلك ذريعة لتهديد الجميع، ريمون ( علاء قحطان ) الشخصية القلقة الخائفة أصْلا يذعن لمزاج وتفسير السلطة خشية أنْ يؤدي ذلك لاغلاق السيرك، ويذهب بعيداً بالأمر الى قتل الكلب ، ورغم أنه أساساً شخصية سلبية يصطاد الطيور ويلعبُ القمار ويخون لكنه بقتله الكلب كأنه قتل نفسه، فهما متوحدان حتى بالحركة وطريقة الأكل والتناوب على النباح، وعليه فهو في عالم السيرك هذا جانٍ وضحية في الآن ذاته ، إذ يقول في حواره مع صديقة الكاتب :” لا أعرف لماذا كنت اجاملهم وأبتسم لهم على مضض وهم الذين قتلوا أخي الشاب عند باب المستشفى قبل عام .. يا الهي كم توجعت وكم نزفت . هاا نسيت أن أقول لك بأن أحد ضباطهم لا يزال يتعقب زوجتي كميلة ويطاردها بسيارته العسكرية طالباً منها الذهاب الى بيته هي تزوغ منه دائماً بصعوبة لبيد انا اشعر بالعار من وجودي في هذه المدينة” والى جانبه زوجته كميلة ( شذى سالم ) التي استُدرجت لاغتصابها من قبل الضابط وشخصية الكاتب لبيد ( أحمد الشرجي) التي ابدع فيها وانسجم اداؤه المتلون مع منعطفات الشخصية ، فكان تلقائيا ويقظاً لمواقع النص وتحولاته ، لاسيما في أدائه وهو يختصر ازمة الانسان الكوني مع الحرب والمصائر المعدة سلفا “الناس كما تعرف أجساد وأرواح، منذ ولادتهم يكتبون كينوناتهم ,, يشيدون بيوتهم , ويؤنسنون حياتهم يشقون الأنهار ويزرعون أشجار الزيتون والنخيل هنا وابار الماء هناك .. يهبط الأولاد من ارحام امهاتهم ثم يكبرون كموسيقيين ورسامين وفلاسفة وعلماء لكن في غفلة من نضوجهم تسطوا عليهم الجواميس المعدنية ببدلاتهم المعدنية يضرمون النار في الأهالي ويهجرونهم من بيوتهم لنزع ذاكراتهم وطردهم من جناتهم” .

شعرية الحكاية

قوة الحكاية ليست فقط في خطوطها العامة التي اراد لها الأسدي أجواء غير عربية خاصة ريمون، بل باللغة الشعرية التي قام عليها الحوار . مانحا سينوغرافيا العرض حرية مطلقة في انشاء مفردات دالة – الاشجار والحريق ومشاهد الدم ، في مستوى عال من التورية ،فالسنوغرافيا كمفهوم حديث هو بيئة عناصر العرض ومعماره الرؤيوي الذي يقوم على خاصية الاشارة والتلميح والمجاز ووحدة العلاقة بين مكونات العرض بتشكيل الكتلة والضوء واللون والفراغ والحركة،والموسيقى والديكور ليترجم خلاصة وحدة هذه الادوات اثرا بصريا دالا و يمنحها تاثيرا عاطفيا، بضم ساحة العرض والجمهور معا الى مناخ مشترك ، وكما يعرف المسرحيون ان عناصر العرض المسرح جميعها لاتعمل منفردة ولايمكن تعطيل احداها بالإتكاء على أخرى تاتي ضرورة السنوغرافيا لزجها في ايقاع وانسجام ، هذا الفن متعدد التخصصات ( السنوغرافيا) يصلح تماما مع المسرح التجريبي ذي اللغة المتحركة الموحية كالتي عليها لغة ( سيرك) . حيث منحت شاعرية جواد الاسدي طاقة للتخيل والافتراض وتوسعة مديات المعنى المراد من الحكاية بما للشعر من طاقة باطنية على توليد المعنى او اضاءة الهوامش التي يراد تكريسها ، فاللغة هنا ليست وسيلة معتادة كزورق ايصال بل هي حوت متحرك يبحر في عباب المعنى والاشارة وايضاح مالايقال، وهو ما لايجيد أداءه سوى ممثل مثقف يعي ماتنتجه كيمياء تلك المقاصد المفترضة والاشارات التي يتجهالحوار ُ نحوها ، فضلا عن ذلك هي بحد ذاتها عبء مضاعف على المخرج في تجسيد تلك المقاصد عبر عناصر العرض الاخرى لاسيما ( السينوغرافيا) وهي تقوم على طاقتي الفن والشعر الوسيلتين اللتين يمكن عن طريقهما للانسان ان يصل الى حقائق الحياة الدائمة حسب ارسطو .

البيان الوجودي

مضى الاسدي المؤلف الى مناطق قصوى من شعرية الحوار ارهقت الشخصية في بعض جوانبها ، وجعلتها في تنافس مع تدفق المعاني وتداعي الدلالات والاشارات والمرامي المتواصل ، وكأنّ الأسدي يريدُ قول كلّ شيء دفعة واحدة في هذا العرض، من تذمر واحتجاج وصراخ ضد الظلم والحرب ، حتى أن المشهد الاخير الذي ادّته العملاقة شذى سالم كان وحده بحاجة الى طاقة فوق العادة جسديا وشعورياً وتركيزا وهو يبدو اشبه بالبيان الوجودي المنسوج بلغة مركّبة من نمط الكتابة التي تقرأ بتأمل، لاتسمع على عجالة لولا قدرة شذى على اداء هكذا نص وايصاله قدر الامكان متزامناً مع خروجها من يأس تام بعد ان فقدت آخر أمل بان تكون على علاقة بلبيد الكاتب الذي حلم بها لكن لقاءهما جاء في ظرف جفت فيه ذكورته وتهاوت حياته بحكم الاحداث والزمن . حيث اقتطف هنا نشيدها الاخير :
أغسل يدي بماء الموتى , متسللة ,إلى مرآتي في جوف الحفرة ,/ أغسله واطهره من غبار الجوع العالق في حنجرته / العربات والمصفحات تهتك أولاد الجوع والجدات حاملات الاطفال الرضع , /إنهم سفاحو الغزو ، غزاة الأرض الثكلى يبتلعون شجر زيتون العرس الدموي ، ينبحون على طمأنينة الأهالي ويعضون روحها وقلبها /القطارات تعوي بعد أن اعلنت إحتظارها على الحدود ،/الهة الرماد يكنسون دمى الاطفال المحزوزة/ وانا في عمق النزيف اجرب إطفاء النار في مسرح السيرك/ صرخت بأعلى صوتي يا الله لماذا يذهب شعبي كله للذبح تحت وطأة الصمت وخيانة ذوي القربى ./ اما من أحد هل تسمعني ايها الرب ! يا الله يا الله .

المدن تهاجر ايضاً

في دائرة الشعرية ايضا هناك مايشبه التشعبات في هذا المضمار كما يرد في مشهد الحديث عن الضابط لدى اعتقاله كميلة ، – الكلب والضابط ، تم استعراض افعالهما ومواقفهما عبر الإخبار وليس تجسيداً كما اشرنا – ومن ذلك حديثه عن الشعر ،والكتب التي في مكتبه والطلب من كميلة قراءة قصيدة محمود درويش ( أبد الصبار ) ومايرد فيها ” لماذا تركت الحصان وحيدا” وهي مفارقة فعلا لاتبدو في محلها وتزيد مستوى الانزياح في النص وتحميله الكثير من الاعباء التأويلية ، فكيف لشخصية سلطوية سادية بهذا المستوى ان يكون على هذا النحو من المعرفة والثقافة والاحساس ، الاّ اذا اراد الاسدي اتجاها جانبيا بالاشارة الى شرطة الثقافة المنتشرين داخل المجتمعات كوسيط خبيث بين الناس والاجهزة القمعية ، وتلك حمولة مبالغ بها في سياق هكذا نص ، رغم جمال القصيدة البارز الذي عرفناه. لكنّ ماهو في صالح هذا النص فقط حسب توصلنا هو تلك الجملة الثاقبة في القصيدة (فالبيوت تموت اذا غاب سكانها ) والبيوت ترحل ، والمدن تهاجر أيضاً والحضارات تتداعى اذا ما انتهك الانسان وغاب ومات .
بالفعل كما قال جواد الاسدي في كلمته التعريفية بالعرض : الممثل هنا هو المخلص الحقيقي للعرض المسرحي ، امكانية عالية تجلت في أداء علاء قحطان الذي قدم واحدا من اعقد ادواره المركبة ، وكان مبدعا محترفا مثله احمد الشرجي المبدع ، فقد كانا بحق اكاديميين وعارفين مثقفين في هذا العرض ، تتقدمهما شذى سالم التي قلت فيها هنا ما تستحق وهي على هذا المستوى الرفيع من الاحساس والقدرة على العطاء. هذه الكوكبة بالتاكيد تظافرت معها مكونات السينوغرافيا ومفرداتها بجهود مبدعة أحييهم جميعاً لأنهم معا وبقيادة الاسدي منحوا العرض كل هذا الحضور والتأثير

(Visited 2 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *