سقوط أحادية القطب او الجحيم” حسين فوزي

سقوط أحادية القطب او الجحيم” حسين فوزي

بعد دفرسوار كورسك
——————-
الفيلسوف دوغين نقلاً عن بوتين:”كل نفس ذائقة الموت” إما سقوط أحادية القطب او الجحيم”
حسين فوزي
رغم كون روسيا أكبر دولة في العالم من حيث مساحتها، 17 مليون كم2، فأن وسائل الإعلام الغربية، ومعها بدون وعي وسائل إعلامنا العربية، تردد تعبير “التوغل في العمق الروسي” عند تغطية اخبار هجمة وحدات النخبة الأوكرانية على منطقة معزولة من الحدود الروسية مع أوكرانيا.
وتستمر التغطية الغربية “الموضوعية” بمفردات تخفي التشفي والكره لروسيا الاتحادية، مع تعابير “تبطيل” القوة الأوكرانية، دون الإشارة إلى مجموعة حقائق، في مقدمتها:
– فشل القوات المهاجمة خلال الأيام الأربعة الأولى من تحقيق هدفها الحقيقي في السيطرة على محطة الطاقة النووية في كورسك، مع استهدافها بنى تحتية، ضمنها تدمير 3 جسور تربط المنطقة الحدودية من جهة، ضمن خطة فرض الأرض مقابل الأرض، بدل مشروع بوتين قبول إرادة السكان الروس مقابل السلام.
– تمكن السلطات ا لروسية من أجلاء مواطنيها، قرابة 150 ألف مواطن، من قرابة 182 قرية وتجمع سكاني، دون سيطرة الأوكران على أي تجمع سكاني روسي يذكر، فما زالت حامية سوجا في مواقعها.
– حجم الخسائر الجسيمة التي تتعرض لها القوات المهاجمة بالطائرات المسيرة والمدفعية الصاروخية التكتيكية الروسية، حتى قبل وصول القوات الروسية الرئيسة المكلفة تطويق الجيب الحدودي من المهاجمين، بقيادة الكسي ديومين.
– استمرار تقدم القوات الروسية في دونباس، والتقدم الملحوظ بشكل خاص في بوكروفسك، لتنفيذ مهمتها في السيطرة على كامل الأراضي المستهدفة ضمن “العملية المحدودة” للدفاع عن الروس الاوكران سابقاً، الذين أصبحوا مواطنين روس بعد قرار قبول التحاق الجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا، وحرص الروس على تجنيب المدنيين الأوكران اية خسائر عرضية، وعدم سحب القيادة الروسية لأية قوات من الجبهة الشرقية الذي تأمله زيلينسكي لتخفيف زخم التقدم الروسي.
– توجه الاوكران إلى استهداف المدنيين في زحفهم للتقدم نحو محطة الطاقة النووية في كورسك، وتكثيف النيران المستهدفة لمدينة كورسك بالطائرات المسيرة، ضمن التوجه العام للتعامل القاسي مع المدنيين الروس، وعدم الاكتراث بحياتهم، وسذاجة الاستفزازات مثل نزع العلم الروسي وتمريغه تحت الاقدام، بما يعنيه من استفزاز للمشاعر ضمن حملة إعلامية للتشويش على الوضع المعنوي الروسي.
من الناحية الأخرى ينبغي تشخيص حقيقة أساسية وهي ان هجمة الأوكران على كورسك التي قال عنها وزير الدفاع الاوكراني “شخصنا اضعف منطقة في الدفاعات الروسية لنستهدفها بأفضل قواتنا لاختراقها..”، ما كان لها ان تتم بدون معلومات استخبارية دقيقة تتخطى قدرات كييف، في تشخيص حجم الوجود العسكري وتوقيتات الحركة العسكرية في مقاطعة كورسك، وهي الحالة التي تعيد إلى اذهاننا ثغرة الدفرسوار عند بحيرات قناة السويس في حرب العبور العربية عام 1973 واختراق خط بارليف، التي نفذها الجنرال ارئيل شارون، التي ما كان لها ان تتم لولا الدعم الاستخباراتي الأميركي وأجهزة التعتيم الالكترونية.
مع هذا يظل الإعلام الغربي يتحدث عن زخم التقدم الاوكراني، الذي قد تم صده، وحالياً بدأت القوات الروسية تلحق خسائر جسيمة بالقوة المهاجمة، حيث دمر اكثر من ثلث المدرعات المهاجمة وقرابة 3000 قتيل، بجانب الضربات المؤثرة لخطوط الإمداد، مما يعني ان زخم الهجمة يتراجع بحكم عاملين موضوعيين، الأول هو بدء التصدي بقوات محترفة، والثاني فقدان الدعم اللوجستي لخطوط امداد مؤمنة بالشكل اللازم لإدامة زخم قوة النيران التي بدأت بها قوات النخبة الأوكرانية، وعدم تجرؤ الناتو على توفير تعويض مباشر بالمعدات الثقيلة من الدروع وبقية المعدات المتطورة، كما فعلت واشنطن في مواجهة القوات المصرية عام 73.
الفيلسوف دوغين وبوتين: “روسيا عظمى أو الموت”
————
عاشت شعوب روسيا الاتحادية أياما صعبة، خلال السنوات الأخيرة من ولاية غورباتشوف الضعيف الساذج ووهم المعالجات المتسارعة للبيروقراطية السوفيتية دون وعي بخنجر الغدر الغربي المغلف بالابتسامات ووعود الذئاب المفترسة، أو فترة يلتسين المخمور الذي سمح ببيع كل شيء بأبخس الاثمان وفساده الشخصي واسرته وبطانته المقربة.
من هو بوتين
————-
في البيئة السوفيتية أواخر أيام عزها وبداية تداعيها وقيادة يلتسين الخائرة الفاسدة تكونت شخصية فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين العاشق لرياضة مصارعة السامبا (طريقة للدفاع الذاتي الروسي والتغلب على الخصم)، فأكمل دراسة الحقوق وكتب فيها بحثاً للتخرج بعنوان “مبادىء الدول الناجحة في المجال الدولي”، ثم ألتحق بعد تخرجه سنة 1975 بجهاز امن الدولة KBG فرع لينينغراد، وتدرج إلى رتبة مقدم أحتياط سنة 1990. وفي سنة 1994 تولى بوتين منصب النائب الأول لرئيس حكومة سان بطرسبورغ وحصل بموجبها على صلاحيات واسعة وساهم في تطوير المدينة عمرانياً وأمنياً، وفي سنة 1996 حصل على درجة الدكتوراه في مجال التخطيط الاستراتيجي والنمو الاقتصادي ليصبح فيما بعد شخصية نافذة وحاسمة في الحياة السياسية والاقتصادية الروسية.
وأنتمى بوتين إلى حزب “روسيا الموحدة” الذي تأسس قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات التشريعية الروسية في كانون الأول 1999، وكانت إيديولوجية الحزب قائمة على قيم الحرية الفردية للمواطن الروسي والعدالة الاجتماعية، والعمل على المسؤولية الحقوقية التي تعني بالقبول الايجابي للحقوق. ومنذ تلك السنة سعى بوتين، الذي اصبح رئيساً لوزراء روسيا الاتحادية، وتولى السلطة مؤقتا بعد يلتسن، إلى تطوير الاقتصاد الروسي داخلياً وخارجياً ومضاعفته 10 مرات، فضلاً عن محاربة الفقر وتطوير القوات المسلحة الروسية كي تصبح قادرة على الدفاع عن روسيا وإصلاح منظومة الضرائب وتحسين أجور العمال وظروف الهجرة والعمل. وعلى الصعيد الخارجي اكد ضرورة التعاون مع دول الكومنولث السوفيتية السابقة في كافة المجالات، وإصلاح الجيش تحسباً لأي نزاعات إقليمية تضطر روسيا إلى حلها مستقبلاً كما هي مشكلة أذربيجان- ارمينيا، والدفاع عن المصالح القومية الروسية في الخارج كأولوية استراتيجية.
وإلى جانب انتمائه الوطني العضوي لوطنه وحده، ووعيه بأن طموحه الشخصي في الارتقاء وتخليد اسمه لن يتحقق ما لم يحقق لروسيا استعادة عظمتها، تحدث في وقت مبكر عن محنة سقوط الاتحاد السوفيتي بقوله “من لم يتألم لسقوط الاتحاد السوفيتي بلا قلب، ومن يتطلع لاستعادة الاتحاد السوفيتي بلا عقل…وسيظل سقوط الاتحاد السوفيتي الكارثة الأكبر في تاريخ روسيا والعالم.”
أيقن بوتين منذ عام 2007 أن واشنطن وحلفاءها، بالأخص بريطانيا، تسعى بقوة إلى تطويق روسيا الاتحادية والعمل على تفكيكها، بغض النظر عن كل الوعود التي قطعتها منذ عام 1990 للساذج غورباتشوف على لسان جيمس بيكر في منسك بعدم تطويق روسيا بالمزيد من انتماء دول الاتحاد السوفيتي السابق في وسط أوربا وشرقها إلى حلف الناتو، وفهم جيداً أن القوى الغربية لا تلتزم بالمعاهدات التي توقعها على الورق ما لم تكن هناك قوة تطالب وتفرض الالتزام بها، فما بالك بشأن وعد شفوي أطلقه وزير خارجية بوش الاب.
لذلك سعى إلى:
1. تعزيز قدرات الإنتاج الوطني الروسي بعيداً عن استحواذ الشركات متعددة الجنسيات، بالأخص في مجال الصناعات العسكرية.
2. السعي إلى تطمين طبقات الشعب الروسي، خارج شريحة المليارديرية الذين صنعهم يلتسين والغرب، وتوفير فرص حياة أفضل متصاعدة، بعد ان استحوذت المافيات على امن البلاد قرابة 10 سنوات سوداء، وضرب المافيات والإدارات الفاسدة.
3. اقترابه الكبير من فكر النظرية الرابعة للفيلسوف دوغين1 بشأن الطريق الذي ابتكره مفترقاً عن الليبرالية والشيوعية والفاشية، بما يحشد غالبية الروس، ضمنهم حتى الحزب الشيوعي الروسي.
4. تعميق القناعة التاريخية بأن روسيا هي امتداد اسيوي أكثر منها اوربية، وأن قيم الشعب الروسي تختلف إلى حد كبير عن الغرب، ومع انها تختلف ايضاً بعض الشيء عن الشرق والجنوب، لكنها متقاربة ومتعايشة معها، وحتى الكنيسة الارثدوكسية، التي يؤمن بثوابتها، لم يعرف عنها عدائها للشرق والمسلمين. وأوراسيا هي الضمانة لتخطي معوقات الناتو السياسية والاقتصادية والعسكرية.
5. شخص بوتين، ومن قبله قيادة الاتحاد السوفيتي، ان امدادات الغاز الروسي، تشكل شرياناً حيوياً لتعزيز العلاقة الوثيقة بين موسكو وبقية المعسكر الاشتراكي آنذاك، لذلك سعى كنيدي لوقف مد خطوط أنبوب الغاز السوفيتي إلى أوربا الشرقية في مطلع ستينات القرن العشرين، وسعت الإدارة الأميركية في اواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحالي إلى وقف استيراد أوربا للغاز الروسي، كونه سيؤدي على المدى الطويل إلى اصطفاف استراتيجي يفتت الناتو ونفوذ واشنطن في المانيا وفرنسا وإيطاليا والدول الاسكندنافية ايضاً.
كما أن طبيعة العلاقة الخاصة التجارية والسياحية والثقافية بين روسيا وتركيا وأذربيجان وإيران وسوريا تؤشر حقيقة طبيعة العلاقات التي تتطلع لها موسكو لـ “أوروسيا”. بجانب حقيقة مهمة هي أن الحروب الصهيونية المبكرة في نهاية القرن العاشر وما تلاه المعروفة بالحروب الصليبية، وهي بالحقيقة حروب الفرنجة، لم تكن الكنيسة الروسية الأرثدوكسية طرفاً فيها.
وإذا ما كان كيسنجر لم يتقبل بغضب مشروع الملكين فيصل لإنتاج السعودية للقمح، فأن واشنطن غضبها اشد على اية صيغ لتعامل حلفائها الغربيين مع موسكو في مجال الطاقة.
إن بوتين الوطني المؤمن بالهوية التاريخية لروسيا الكبرى ودورها العالمي منذ أيام بطرس الأكبر، الذي أكدته الحرب الوطنية الكبرى ضد الغزو النازي عام 1941، والإرادة الشعبية التي لا تقهر مهما عزت التضحيات في محاربة نابليون وهتلر، هو الحافز الأكبر لإيمان بوتين بحق بلاده في ان تكون قطباً دولياً رئيساً غير تابع أو خانع للقطب الأميركي وحلفائه، والسعي لإقامة شرق وجنوب عظيميين.
من يغادر بوتين ومشروعه الأوراسي أم سقوط القطب الأحادي
————————
وإذا ما كان فوكوياما يعد بوتين زعيماً سياسياً يحارب نهاية التاريخ عبثاً، فأن وقائع الصراع منذ استفحال قضية أوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو، تبين إرادة ثابتة للروس في رفض الانصياع وخوض المعركة بالوسائل السلمية وغيرها.
وكما يقول الفيلسوف الروسي دوغين قد”رنا أن نكون دولة عظمى والاعتراف بنا امر واقع، اما العقوبات فقد عززت فرص استعادة صناعتنا الوطنية وتحقيق منجزات تقنية كبيرة، نحن نخوض حرباً وجودية انثروبولوجية. وكما يقول بوتين “لا خيار غير الانتصار او النهاية، فما قيمة العالم بدون روسيا.””
إن بريطانيا، بكل تاريخها الاستعماري، تدرك اكثر من غيرها ثقل روسيا التاريخي، فبدون روسيا ما كان بالإمكان فرض الاستسلام على نابليون، وبدون روسيا ما كان بالإمكان استعادة امنها، ولما سقطت برلين الرايخ الثالث، وهي لذلك دربت قوات النخبة الأوكرانية التي اخترقت الحدود الروسية، وهي تحاول استطلاع كل ما من شأنه تطويق روسيا الاتحادية، وما طائراتها الاستطلاعية الثلاث الأخيرة في شمال روسيا إلا مؤشراً على طبيعة المخطط الذي تسعى واشنطن ولندن لتنفيذه في تجريد موسكو من منافذها البحرية والطمع في ثرواتها الكامنة، وتطويقها براً من كل الجهات، على امل فرض انهيار داخلي واسقاط السلطة القائمة والمجيء بقائد ضعيف خانع لمصالحهم في الاستحواذ على الثروات وأسواق الروس وبقية الشعوب.
وهو ما طرحه الناطق غير الرسمي باسم المصالح الغربية توماس فريدمان حينما قال إن “الحرب في أوكرانيا لن تنتهي إلا بمغادرة بوتين” .. بمعنى ان واشنطن ولندن وبرلين يقاتلون حتى اخر اوكراني في مخطط يهدف إلى اخضاع موسكو وابعاد بوتين.
والسؤال الكبير سيظل من سيغادر، هل تتنازل واشنطن ولندن عن خططهما، أمام صمود الروس وتضامن اصدقائهم، أم ان قوى ما بعد الامبريالية والعولمة المستحوذة على منابع الثروة في العالم هي التي تستحوذ؟!
إنه التحدي الأكبر الذي يدور في أوكرانيا بين العولمة الغربية وبين شعوب الأرض الأخرى من الطرف الاخر، في حرب بين روسيا والناتو … وسيظل ما يردده بوتين ومعه الفيلسوف العنيد دوغين “كل نفس ذائقة الموت” له أكثر من مغزى، سواء بالنسبة لنا الشعوب الإسلامية، أو بقية شعوب العالم المناضلة من اجل فرص أفضل في الحياة…والامل في عالم بلا استفراد قطب واحد وهيمنة تحالف غربي ينهب الشعوب النامية والوسيطة.
بوتين في اخر كلمة له موجهة للقيادة وشعوب روسيا الاتحادية قال “إنهم يتحدثون في الناتو عن الانتصار على روسيا، ويريدون القتال حتى اخر قطرة دم أوكراني، فلنرَ ما ستؤول له النتيجة…” مع هذا تظل الحقيقة المؤلمة هي تماماً كما وصفها بوتين ” القتال الدائر اقرب ما يكون إلى حرب أهلية مؤسفة.. لكن روسيا ستنتصر فيها.”
——————————————————————————————
1. ألكسندر جليفيتش دوغين، مواليد 7 يناير 1962، موسكو، هو فيلسوف روسي وعالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم يجيد 9 لغات، وشخصية عامة. مُرّشح في العلوم الفلسفية، دكتوراه في العلوم السياسية، دكتوراه في العلوم الاجتماعية. واستاذ جامعي وهو رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في كلية علم الاجتماع بجامعة موسكو الحكومية. وهو زعيم الحركة الأوراسية الدولية. يعده الإعلام الغربي اخطر مفكر شرقي (اوراسي).

(Visited 25 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *