حسين الصدر
-1-
قيل :
” ان ابا دلف العجيلي كان يوماً يساير أخاه في بغداد فَمَرَّا على امراتيْن فقالت احداهما للاخرى :
أليس هذا ” أبو دلف ” ؟
قالت :
نعم
هذا أبو دلف الذي قال فيه الشاعر :
انما الدنيا ابو دُلَفٍ
بين بادِيهِ ومحتضَرِهْ
فاذا ولّى ابو دلف
ولّت الدنيا على أَثَرِهْ
فلما سمعها ابو دلف صار يبكي بكاءً شديداً
فقال له اخوه :
ما يبكبك ؟
قال :
أبكي لأني لم أوفِّ هذا الشاعر حقه ،
فقال :
أوليس قد أعطيته مائة ألف درهم ؟
قال :
والله ما ندمتُ الاّ لأنها لم تكن مائة ألف دينار ”
-2-
وتُلاحظ في هذا النص جملةُ أمور :
الأول :
انّ الشعر حفظ لكثير من الرجال مكانةً ميّزتهم عن سائر الناس ، ومِنْ هذا الطراز : أبو دلف العجلي القائد المشهور بشجاعته .
الثاني :
ان كبار الرجال يقابلون الاحسان بالاحسان ، ويشكرون مَنْ أحسنَ القول فيهم، ويُقدّمون لهم المكافاءات الكبيرة، وهم يستقلونها، وهذا ما فعله أبو دلف مع الشاعر المادح
الثالث :
المرأة نصف المجتمع
وكبار الرجال كانوا يُعْرَفُونَ على المستوى الاجتماعي العام بحيث تشخصهم النساء متى ما رأينهم ، في عصرٍ لم تكن فيه شاشات مرئية ولا صور متداولة بين الناس .
الرابع :
ان المرآة البغدادية في القرن الثاني الهجري تفوقت على المرآة البغدادية المعاصرة حيث لم تكتف بمعرفة (أبي دلف ) عند رؤيته بل قرأت بعضاً من الشعر الذي قيل فيه
وأين المرآة العراقية اليوم من حفظ الأشعار وانشادها عند الحاجة اليها ؟
الخامس :
انّ السخاء صفة محبوبة عند الناس ، كما هي صفة ممدوحة في الموازين الشرعية ،
وقد كتب الاسخياء لانفسهم تاريخا حافلاً بالأمجاد ، على العكس ممن أصابتهم آفة البخل والامساك .
السادس :
الذِكرُ الحسن والثناء العاطر مضمونان لذوي النفوس الكبيرة ،
وكفى بذلك محفزا باعثا على التمسك بأهداب القيم السامية والسمات العالية .
السابع :
يمكنُ أن ننتزعَ من النص صورةً اجمالية عن الوضع الاجتماعي العام والمنسوب الثقافي في تلك المرحلة .
الثامن :
ان العناية بالعربية وآدابها كانت لها الصدارة في قائمة الأولويات،
أما اليوم فان تخصيص يوم عالمي للغة العربية يتم الاحتفال به لا يُلغي حقيقة الانخفاض الكبير في المنسوب اللغوي والأدبي ،
وهذا ما يجب أنْ يعالج .
ان انقطاع المثقفين عن التماس الحقيقي مع كُتب الأدب والتراث والمدونات الكبرى فيهما كانت له مردوداته السلبية الكبرى .
بل أنّ ضعف الاقبال على قراءة القرآن أسهم أيضا في ضعف البُنيْة اللغوية والأدبية أيضا .