د. احمد مشتت
دخلت غرفة المقابلة الاخيرة التي ستحدد فيما اذا كنت ساذهب الى الحرب قريبا او اننيساحصل على درجة معيد في كلية الطب وانجو من الرقاد بعلم ملفوف الى الابد.
كانت الغرفة في نفس بناية العمادة على بسار دائرة التسجيل.
لم يقل عميد الكلية اي شيء. كان وجوده رمزيا ليس الا. حتى ربطة عنقه كانت تشي بذلكوالوجه الذي كرس اليأس خلف نظارتين سميكتين أبلغ الرسالة.
الاساتذة النائمون نسوا وجودي غير المهم.
سيد الحوار الاوحد كان منعم.
سيد المكان بلا منازع.
لمحت انبعاج المسدس من خلف سترة الزي الموحد الزرقاء
وجهه تحول الى فوهة مدفعية قصيرة المدى مصوبة الى صدري الاعزل.
و ارسلتني نظراته الصامتة الى خنادق الحرب التي كنت ارتعب منها.
لم يعلن صفته ودوره في المقابلة اذ لم يكن بحاجة الى ذلك. وهو جالس على الكرسي جنبالعميد بدا متراسا صعب الاختراق وباباً يُفتح على بابٍ موصود.
تضاءل الفضاء الشحيح في الغرفة و بدات اتنفس الخيبة بدلا من الهواء. أصلاً لم يكن منحقي ان اتنفس. رئتي اضحت اسفنجة عاطلة عن العمل.
كان النصاب المعقود لايليق بكلية علمية عريقة تأسست عام ١٩٢٧، اول كلية طب فيالشرق الاوسط ، كان نصاباً يليق بالشعبة الخامسة.
عميد الكلية والاساتذة ضحايا منعم ايضا ولكنهم ضحايا من الدرجة الثانية.
انا كنت الضحية الاولى.
الملف الضخم امامه كان مفتوحا، رجحت ، على صفحتي وكانت مليئة بالخطوط والدوائروالرموز والملاحظات المهمة.
كانت حياتي ورقة اخرى في ذلك الملف الذي جُمِعَ بعناية فائقة. ورقة ليس فيها اي فراغيذكر.
الاسطر مخترقة بحس امني عالٍ و الفراغات التي بينها مليئة بالتفاصيل.
لم يكن هناك فراغا ابيضا ً. الورقة سوداء تماما من كثرة الملاحظات التي خُطَت فيها بيدٍتمرست في كتابة التقارير.
لم اكن بحاجة الى ان أُبصر ما في الورقة لأعرف مافيها.
في مقابلاتي اللاحقة للحصول على عمل في لندن كان السؤال الاول الذي يطرح علي هو:
( حدثنا عن نفسك ) لتقييم تاريخ تجربتي في الطب والجراحة وطموحي الشخصيولتحديد فيما اذا كنت الشخص المناسب للعمل. الشخص الذي سيبدع في عمله ويكونمتميزا من بين كثيرين. علامة البحث عن الخامة المبدعة و الدؤوبة.
في مقابلة كلية الطب تلك عام ١٩٨٦ كان منعم غير معني باية خامة مبدعة لاهو ولا الدولةالتي يمثلها، انه يعرف ببساطة شديدة كل شيء عني ولم يكن من المنطقي ان يسالني هذاالسؤال.
لم يطرح احد من الاساتذة اي سؤالاٍ علميٍ له علاقة بالمقابلة. كانوا مثل كورال صامت فقدالقدرة على النطق.
سالني منعم – الحقيقة لم يسال– كان يخبرني بنتيجة المقابلة حتى قبل ان اجيب على أيسؤال او استفسار.
قال منعم
( احمد انت لم تقدم اي خدمة للوطن لحد الان)
قالها وهو مستغرق في الملف امامه.
( ما عندك انتماء للحزب القائد ولا اي مبادرة وطنية). كان يريد ان يقول:
انت كلب ضال. وحرك قدميه تحت طاولة التهديد وكأنه اراد ان يقف ليوجه ضربته القاضية.
لم افهم ان كان ماقاله اتهام مباشر، اقرار حقائق، أو لغز بحاجة الى تفسير.
استنجدت بالاساتذة وعميد الكلية الغائبين عن الوعي بدون فائدة. لم يكن في غرفةالاستجواب تلك اي سند لي. كنت ُوحيداً بلا ظهر. حتى الارض قررت ان وجودي اساءةبالغة لها وتمادت تحت اقدامي.
تم قرصنة المقابلة قبل ان تحدث. وجود منعم وملفه الضخم حسما الموضوع بالكامل.
كنت محظوظا جدا انه لم يتهمني بخيانة الوطن. اوصد امامي الباب الاخير للنجاةونظرته الاخيرة التي اشارت لي باستغلال الفرصة والخروج من قاعة الصمت حيا أُرزَقانبأتني ان الوطن غير راضٍ عني بالمرة.
في ممر مستشفى الكاظمية في يوم ٢٥ تشرين الثاني من عام ١٩٩٤ وانا اسمع صوتمنعم ثانية، منعم الذي لم يتغير في ملامحه البائسة اي شيء
مستجوبا
مسافر؟
ادركت ان خطتي للهروب من العراق التي باتت اكيدة الحدوث قبل ساعات أضحت في مهبالريح مرة اخرى وان خروجي من دائرة الجوازات سالما ليس له اي معنىً.
يتبع