ذكريات مع الفنان راسم الجميلي / قحطان جاسم جواد

من مفكرتي الفنية

قحطان جاسم جواد

في عام 1971 اثناء خدمة العلم, نقلت الى دائرة المسرح العسكري بواسطة قوية من قبل الملازم الاولعبدالقادر زوج المذيعة بشرى الجميلي ,دون ان احمل اي تخصص فني رغم ان كتاب النقل يذكر اننيعازف بيانو! المهم التحقت بالمسرح وكان مديره انذاك الفنان الكبير الراحل راسم الجميلي,وكان معنارياض احمد والممثل حسين اللامي والمطرب عبدالزهرة مناتي مطرب الريف المعروف  ومطرب المربعاتعكلة علي ثم جاء بعدهم الفنان حسن الشكرجي عازف القانون ومدير دائرة الفنون الموسيقية بعد2003.المهم انتظمت في الدوام  ورحب بي كثيرا لان واسطتي كانت قوية والجميلي غير حزبي ويخافمن الضباط الحزبيين! فقال لي في اليوم الاول ان جنود المسرح يستأجرون بيتا قرب المسرح يبدلونملابسهم المدنية بالعسكرية! اي ساكون مدنيا في الخارج اثناء الذهاب والمجئ  للمسرح.ثم عرفالجميلي بعد حين  انني اخ الفنان التشكيلي رافع جاسم مصمم الديكور في التلفزيون فرحب بي زيادةفي الاهتمام.وفي يوم ممطر غبت عن الدوام فاستدعاني الجميلي ليسال عن السبب,فاضطررت للكذبوقلت ان المطر دخل بيتنا وظللت انقل المياه الى خارج المنزل!فسكت الجميلي وعفا عن الغياب.بعد فترةشاهد الجميلي اخي رافع في التلفزيون فقال له بحزن تألمت كثيرا عن حادثة دخول مياه المطر الى منزلكمفأنكراخي الحكاية واكد على عدم صحة الخبر! فجاءني في اليوم التالي ليهمس في اذني انه عرفبالكذبة! فظللت اترقب العقوبة لكنه لم يعاقبني ربما لطيبة قلبه او انه يعرف سوالف الشبابوالاعيبهم.وحين اخرج مسرحية الشرارة وكتبها بنفسه وقدمت على مسرح قاعة الشعب زجني بدورتمثيلي فيها اظهر فيه احدى الشخصيات المتنفذة في الدولة ايام الحكم الملكي,وكان الراوية للاحداث هوالمطرب الراحل رياض احمد الذي جمعتني به صداقة قوية استمرت الى حين وفاته.واتذكر ان المسرح قامبرحلة الى شمالنا الحبيب لتقديم حفلات ترويح لابناء القوات المسلحة هناك..في احدى الحفلات طلبمنا ان لا نشرب شيئا (يعرف ان كل المنتسبين من شرابة العرق) لكن الجماعة اصرت على الشربخصوصا المطربين والموسيقيين لانهم لايستطيعون الغناء والعزف الا وهم منتشين!المهم رياض احمدابتكر خطة الشرب بأن يخلط المشروب مع البيبسي حتى لاينفضح الامروقد تعجب الجميلي منمشاهدة الجميع وهم يحملون زجاجات البيبسي فقال (شنو اسبوع البيبسي العالمي) وخطف احدىالزجاجات من احد الجنود ليكتشف اللعبة واخذ يتحدث بصوت عال واطلق شتائم بحقنا(ورزالة غسلولبس).كان الجميلي رحمه الله طيب القلب ومتسامح وكريم ويساعد الجميع لكنه يزعل كثيرا حين ينزعجمن  تصرفات بعض الجنود.وظلت صداقتنا مستمرة وكنت التقيه بعد ايام العسكرية في الاعمال الفنيةوكثيرا ما اجريت حوارات مهمة معه في مجلة الف باء او جريدة العراق او جريدة الزوراء الخاصة بنقابةالصحفيين العراقيين,اخر مرة استضفناه في البيت بدمشق عندما كنا هاربين من نير الطائفيةهووالفرقة المسرحية التي قدمت مسرحيتها في دمشق.وقد اجريت معه حوارا مهما قال فيه انه خائفجدا لانه يتلقى تهديدات ورسائل حقد من اشخاص لايعرفهم وذلك بعد ادائه لدور عن شخصية تشبهالرئيس طالباني وفيها نقد حاد للوضع السياسي في البلاد, لكني هدأته وقلت له لاتخف لانك خارجالبلاد ولايستطيع اي احد ان يمسك بسوء.لكنه للاسف توفي بعد اشهر بسبب القلق النفسي وحرقالاعصاب.واقيمت فاتحته قرب ضريح السيدة زينب في عام 2007 في مثل هذه الايام.الله يرحمهويحسن اليه كان فنانا ممتازا وانسانا نبيلا..ويمتلك موهبة لاحدود لها فهو كاتب ومؤلف لكتب عدةومخرج وممثل ومعد برامج للعديد ناجحة وكوميديان من طراز خاص.

 

أيشك مان)

صراع الإنسان مع قدره

كتب د / خالد البغدادى

الفن هو صورة خالصة للتمرد الإنسانى

هذا ما أكده المفكر البير كامى فى إشارة واضحة لقوة الفن وحيويته ، فقد صاحب الفن الإنسان فى كلمراحل التطور البشرى الأنثروبولوجى / والأيديولوجى ، وكان من أهم الأدوات التى إستخدمها الإنسان فىسبيل التطور والتحرر ، فالفن هو الذى يحرر الإنسان ويطلق طاقات الإبداع داخله ، هنا تتجلى قدراتوطاقات الإبداع الإنسانى الغير محدود .

وفى هذا السياق نستطيع أن نتفاعل مع التجربة التشكيلية للفنان اللبنانى روجيه طانيوس ، الذى جاء منخلفية قانونية إلا انه رغم هذا إستطاع أن يحقق لتجربته الفنية الكثير من الحضور الملحوظ محليا وعالميا ،حيث ينظم العديد من الملتقيات والفاعليات وورش العمل الفنية ، كما يشارك أيضا فى العديد من المعارضوالفاعليات الفنية عربيا وعالميا .

من الجبل الى العالم

المحلية هى الطريق الى العالمية

دائما ما تتردد هذه العبارة فى مجال دراسات الأنثروبولجيا الثقافية للتأكيد على القيم التراثية والإنسانيةللمكان ، فلكل مكان ذاكرة تحمل قيمه التراثية والحضارية ، ودور الفن هو إعادة إكتشاف هذه القيم الإنسانيةوإلقاء الضوء عليها وفق آليات العصر . وأحيانا أخرى يكون البحث فى ذاكرة المكان هو مصدر الإلهامخصوصا عندما يكون المكان له خصوصية ، وقد لعب البيئة دورا هاما فى تشكيل وعى الفنان روجيهطانيوس الفنى والثقافى ، فهو قادم من شمال لبنان  ، من قمة الجبل .. حيث تلتقى السماء والأرض وتتعانقسحب السماء مع صخور الجبل الذى يقع على إرتفاع 1600 متر فوق سطح البحر .

والحقيقة أن للمكان سحر وتأثير وخصوصية يصعب تجاهلها أو تجاوزها ، فأمام شموخ الجبل وعمقالوادي .. لا تشعر إلا بالرهبة والخشوع ، خصوصا عندما يتصاعد الضباب من بين الأشجار وكأنه دخان لناركثيفة مشتعلة .. فيغطى الجبل ويوارى غصون الأشجار ويخبأ خلفه ضوء النهار .. ونجوم الليل ، وعندمايتعانق السحاب مع الضباب .. والنجوم مع الغيوم .. عندها بفقد كل شىء بعده الفيزيقي ويتحول إلى أثير.. ويختلط الوهم بالحقيقة .. والمادي بالروحي ، ويصبح الجبل ليس مجرد صخرة تقف في الفراغ .. ولكنهذاكرة ممتلئة يتداخل فيها الماضي والحاضر مع المستقبل .. وتصبح أنت مجرد سطر في ذاكرة هذا الجبل ..!!

وقد إستطاع إبتكار شخصية فنية من العدم  ، شخصية خرجت من قلب الثقافة المحلية لتتجول حول العالموتصبح لها حضور فنى وفكرى .. مادى / ومعنوى حول العالم ، هى شخصية (أيشك مان) الإسم يجمع مابين اللهجة المحليه فى كلمةأيشالتى تدل

على البحث والسؤال وبين الحداثة والمعاصرة فى كلمةمانوهو الصراع الأزلى الدائم الذى يخوضهالإنسان مع قدره ، حيث تتجاذبه العديد من القوى الراديكالية التى تربطه وتشده الى الماضى ، وقوى أخرىتجذبه الى المستقبل الذى نحاول جميعا ان نلحق به ، صراع ما بين الإنسان وذاته ، ما بين عقله وضميره ،ووعيه ولاوعيه .

وقد نظم عشرات المعارض المحلية والدولية لهذه الشخصية فى لندن وباريس ونيويورك .. وغيرها من المدنالأوربية والأمريكية ، حيث إستطاع إبتكار وصنع شخصية فنية مثل شخصية سوبر مان وبات مان وغيرهامن الشخصيات التى بدأت مجرد رسوم فنية فى قصص كرتونية ، ثم مالبثت ان تطورت الشخصية وبدأتفى التحرك عبر فضاءات أخرى ، وتقتحم عوالم فنية وإبداعية أخرى ، وتتفاعل مع وسائط إبداعية مغايرة ،حيث تستقل الشخصية عن صاحبها .. وتتمرد عليه وتقوده هى الى حيث تريد ، وأتوقع أن تتجرك هذهالشخصية فى المستقبل فى فضاءات فنية أخرى ، بأن تدخل عالم الرسوم المتحركة أو تدخل عالم السينما أوالدراما..!!

الشخص والشخصية

ويتكون أيشك مان من مواد مختلفة .. بلاستيك وأسلاك ومعادن وخيوط ولادائن ، والأحجام الضخمة يدخلفى تصنعها الفيبرجلاس ، ودائما مقيد بالسلاسل والأغلال ، هذه القيود هل هى العادات والتقاليد الذىيحاول أن يتمرد عليها ، الهروب من الواقع والوقائع الى عالم الخيال الواسع الرحب ، وهو نموذج يشير الىالثقافة الذكورية التى تحاول الهيمنة والسيطرة ، مستغلا قوته الجسدية وتفوقه الذكورى ، فهو أقرب الىشخصية هرقل فى الميثولوجية الإغريقية التى تجمع ما بين نصف إنسان ونصف إلهه ، ويجمع ما بين قوةالجسد وقلب عاشق وروح مرهفة متطلعة . وأحيانا يتمرد على جسده وعلى نفسه..!!

إنه صراع الإنسان مع قدره ، الصراع ما بين القديم والحديث ، العادات والتقاليد مقابل الحداثة والمستقبل ،وبدأت الشخصية فى العمل والتحرك على اللوحة المسطحة ، وتتحرك فى فضاء التكوين الفنى ، وتتجول مابين الحطوط والألوان والأشكال ، لكنها مالبثت أن بدأت تتمرد على محيط اللوحة وبيئتها المحدودة ،وإنطلقت للتجول فى العالم الرحب ، حيث خرجت من فضاء اللوحة المحدود الضيق الى فضاء العالم الواسعالرحب الذى يتمدد فى كل الإتجاهات بشكل لانهائى ، فنجده مرة عملاق ضخم يواجه كل الأخطار فىمحاولة منه لإنقاذ العالم ، ومرة أخرى نجده عاشق مرهف الحس يحمل قلب من دهب ينبض بالحياة ، حتىوصل الى سقف كنيسة السيستينا ، حيث وضع نفسه مكان الرمز الذى يشير الى فكرة الإله ، وهى جرأةومغامرة من الفنان ومن أيشك مان نفسه..!!

وبلغ أحجام بعض هذه التماثيل أكثر من مترين نصف ، حيث يتجاوز الصراع التقليدى ما بين الكتلة والفراغتلك الإشكالية التى تواجه الفنانين دائماليواجه إشكالية اخرى أكثر إرباكا وهى كيفية بناء وتأصيلمفهوم فنى وفكرى يؤسس لتفاعل فورمولوجى وحضور إبداعى فى فضاء ثلاثى الأبعاد فى مواجهة كلخطوب الحياة وضربات القدر ..!!

لقد أصبح للشخصية وجود وحضور مستقل وقائم بذاته حيث إستطاعت ان تفرض سطوتها وحضورها فىالوسط الثقافى والفنى ، مثلما حدث مع الشخصيات الفنية الأخرى مثل سوبر مان وبات مان وغيرهم ،فالجمهور يعرف هذه الشخصيات جيدا وربما لا يعرف من هو صاحبها أو مبتكرها..!!


مشاركة المقال :