مقالة في الاتجاه المعاكس
د.عادل جعفر
استشاري طب نفسي
تعمدت في اختيار هذا العنوان لمقالتي ، اذ هذا الشكل من اشكال الكلام يسمى بالتناقض الظاهري او السفسطة او كلام متناقض و هو شكل يستخدم معاني متضاربة معًا عن قصد مما يمنحهما معنى جديد و من دون شك يستخدم لإثارة الإعجاب أو ربما للسخرية و أحياناً للوصول إلى تأثير بلاغي أو على الأرجح لخلق تأثير أسلوبي من وجهة نظر نفسية و بالتأكيد من أجل احداث صدمة، و كما هو واضح لدينا من عنوان المقالة …..اذ لا يوجد سفسطائي يكون نزيه و لا يوجد شريف يكون ذليل!.ربما هذا كلام سفسطائي!!.
تاريخيا يعود مصطلح التناقض الظاهري (oxymoron) إلى اليونانية، إذ إنه دمج للكلمتين oxus وتعني حاد أو ذكي، وmoros وتعني حماقة أو بلادة. وهذا التعبير “حماقة ذكية”، يشير، دون أدنى شك، إلى الدمج بين المتناقضَين بشكل غير مألوف علما ان المصطلح نفسه متناقض فلا توجد حماقة ممكن ان تكون ذكية!.
و من الامثلة المشهورة لهذا التناقض اللفظي في الطب النفسي هي جملة “العنف المنزلي” .
اذ شددت حركة مونديال الدولية للأمهات بقوة على أن مصطلح ”العنف المنزلي“ او ممكن ان نترجمه ب ” العنف الأليف “domestic violence هو تناقض لفظي لا يطاق، اذ لا يوجد عنف أليف ،كأن نقول “ثعبان كوبرا أليف”! فهل شاهدنا في حياتنا كوبرا أليفة!؟.
و في عالم الجماعات المتطرفة فجملة “طالبان معتدلة” تحوي على كلمتين متناقضتين ؛طالبان و معتدلة :
بينما نحن ندرك انه لا يمكن ان تكون حركة طالبان معتدلة لانها اصلا هي حركة متطرفة و التطرف مضاد الاعتدال.
و من الامثلة الأخرى “وحيد بين الناس” و”صدفة مقصودة” و”المضحك المبكي” ، “الثلج الساخن” الذي اختير كأسم لأحد الافلام ، و جملة “خطأ لا تشوبه شائبة”.
اما اكثر صورة بيانية متناقضة رائعة هي صورة “سياسي نزيه”!!.
من أطلع على أدب ادونيس يتذكر قوله ” أنهض أرضًا”؛ بينما طبيعة النهوض هو إلى أعلى بيننا أرضًا هي إلى أسفل، عموما هي سفسطة او مجرد كلام متناقض
كما استخدم الادباء التناقض اللفظي كعنوان لكتبهم
“الحي الميت” ل تولستوي و” لص شريف” لـ ديستوفسكي
و كذلك عناوين للافلام مثل ” العودة الى المستقبل “ل روبرت زيميكس و “عيون مغلقة واسعة”(Eyes Wide Shut) ل إس. كوبريك و “اكاذيب حقيقية” ل جيمس كاميرون
اما أثناء جائحة الفيروس التاجي الذي عايشناها ، فقد تم استخدام هذا التناقض :
“يشعر الكثيرون بالوحدة معًا حيث ينخرط الجميع في التباعد الاجتماعي ويستريحون في هذا التناقض”.
كل ما ذكر كان مقدمة لنعرف من هم الاشخاص السفسطائيين في مجتمعنا العراقي و الذي بدؤوا يتكاثرون و يتسلمون مراكز قيادية في مجالات مهمة .
ربما شرحي لمصطلح التناقض اللفظي (oxymoron )كان هو نفسه سفسطة زائدة و زائلة مني او ربما يعتبر بمثابة مقدمة لتقريب المعنى و بالتالي نعرّفكم بنوعين من هولاء السفسطائيين النزهاء.
عموما في يومنا هذا تعتبر السفسطة صفة مذمومة و كلمة ملوثة .. فهي تعني الفذلكة بلا معنى أو الجدل للانتصار أو الكلام الفارغ وغيرها من المعاني التي تهين من يعملها.. بينما في الأصل هي ليست كذلك ، اذ كان لها شأن عظيم وقرنت بالحكمة زمن الإغريق اذ كانت آنذاك “وصفًُ ممدوح “اذ كانت طبقة السفسطائيين تشمل الاشخاص الذين يتميزون بذكاء عالي و ظهروا كممثلين للشعب وحاملين لفكرهِ وحرية منطقهِ ومذهبهِ العقلي لهذا تعرضوا للتنكيل والنفي والقتل لمجرد كون مذهبهم الفكري يخدم مصلحة الضعفاء والمساكين،
لقد حاربهم الفلاسفة مثل سقراط و افلاطون و ارسطو و اعتبروهم مجرَّد مشعوذين، إن لم نقل مجرَّد سطحيين و أصدقاء للمظاهر ،غير مهتمين كثيرًا بالحقيقة.
و في عصر أرسطو تم القضاء على فلسفتهم التي تقوم على فن الكلام و التكسب من بيع الخطب .. وتحولت السفسطة من سمة للحكمة إلى سُبَّة للمفكر الذي يوصم بها.
و في عصرنا الحالي تحول إسمهم ليشمل الاشخاص الأغبى على الاطلاق بعد ما كانوا الأذكى و اصبحنا كثيرا ما نشاهدهم على شاشات التلفاز في البرامج الحوارية المصممة على شاكلة برامج الاتجاه المعاكس او في برامج غسل عقول البسطاء ، و التي اصبحت منتشرة في كل القنوات العراقية. فهم اشخاص يجادلون بمهارة كثيرة ولا يهمهم الوصول لأي نتيجة بحيث دائما ما ينتهي جدلهم إلى استنتاجات بطرق التوهان.
عموما هم اشخاص كثيروا الكلام يملكون قدرة على أن يتكلموا بسرعة غير معتادة ولا يسمعوا إلا قليلاً و يقاطعوا كثيرا . غالبا ما يتلاعبوا بالتعبيرات والألفاظ ويخفون الحقائق ،وعندما تتم مواجهتهم بسؤال من قبل الإعلامي فإنهم يخترعون سؤالا من عندهم ليبتعدوا عن صلب الموضوع .ان حضور هولاء في البرامج فعلاً يمثل حالة إزعاج للمشاهد و تتمنى لو تكسر التلفاز على رأسهم و بلا شك يمثل احياناً نكتة تستدعي الضحك و الفكاهة و التعجب لغرابة و جنوح ما يطرحونه من افكار و طريقة كلام شاذة مليئة بالإطناب و التماسية و التلاحن و التشتت و المراوغة و اللامنطقية في الاستنتاج و كذلك استخدامهم لألفاظ مستحدثة مع المراوغة الى الدرجة التي تتيقن فيها انهم اشباه مجانين ، و عادة هم أناس متسرعين جداً في اتخاد قراراتهم وإصدار أحكامهم على الناس لهذا هم بعيدين جدا عن الحكمة ، و من المضحك المبكي انهم يعتبرون انفسهم دائما على حق و لا يراجعوا انفسهم قط .
اما الشيء المثير الذي لاحظته من خلال متابعتي المثابرة و الدؤوبة لسيرتهم و اخبارهم فأني وجدت انهم نادراً ما تنتابهم نوبات اكتئاب وحياتهم تكون مبتهجة في أغلب الأوقات، لا يصيبهم الشك أبدا ويعيشوا الحياة بيقين تام بمُعتقداتهم ويعتبروها هي الصواب ويدافعوا عنها حتى دون التأكد منها.
لا يقف السفسطائيون الى هذا الحد ، بل البعض اكتسب أسلوب جديد و بذلك قد تحول من مجرد صاحب كلام متناقض الى مالك اسلوب حياة متناقض و هكذا ظهر لدينا سفسطائيين من نوع جديد و ظهرت في مجتمعنا اوكسيمورونية عجيبة في كل نواحي حياتنا حتى باتت
الاوكسيمورونية واحيانا المورونيه moronic thinking تملا حياتنا.
….. فتجد الناس تلعن امريكا و بريطانيا في الصباح وتحلم بالهجرة اليهما او حتى زيارتهما في المساء….. وتجد الشيخ ينزل من سيارته الفارهة ويتحدث في تليفونه الذكي ويحمل لابتوبهِ الذي صنعه “الكفرة” ثم يحذر الناس من العلم الدنيوي الذي يجعل الناس تكفر بالله….. ويحذرهم بان العلم حرام ونظريات علم النفس الكافرة حرام ونظرية التطور حرام و أننا سنسود العالم بإذن الله فقط لو اكثرنا من الدعاء وملأنا المساجد في صلاة الفجر و حتى لو ظللنا نعبد المقدس حفظه الله الذي هو أعلم من على وجه الأرض وننحني له من دون الله…..!!!
و بهذا يحق لنا ان نقول ان سفسطائي اليوم ليس كسفسطائي الأمس و قد تحولت طبقة السفسطائيين من طبقة ذكية تعمل من اجل الناس الى طبقة غبية و لئيمة تعمل ضد الناس و غايتها خلق مجتمع يضم مجاميع من اشخاص ميتّين سريرياً و جثثاً متحركة و اشخاص منوّمين مجرّدين من وعيهم الذاتي أي انهم بالمحصلة كالموتى الأحياء!!
لهذا علينا ان نعي حقيقة السفسطائيين الجدد و ندرك من هم و الامثلة عنهم كثيرة و عددهم لا حصرَ له.