——-
حسين فوزي
كان وجود معسكرين يشكلان قطبين متنافسين، المعسكر الأشتراكي بقيادة أو سلطة الاتحاد السوفيتي من جهة، والمعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، فرصة تاريخية للبلدان النامية للحصول على أفضل الصفقات، بفعل التنافس الشديد بين الطرفين، بالأخص حرص موسكو على الوصول إلى المياه الدافئة والتحرر من خانق محدودية المنافذ البحرية، بالأخص منفذ البوسفور- الدردنيل.
وعملياً دعمت موسكو البلدان النامية في طموحها بالأستقلال الاقتصادي بعد نيلها الاستقلال السياسي، وكان الاتحاد السوفيتي يقدم معونات بشروط ميسرة، ضمن رؤيته لإضعاف قبضة النظام الراسمالي على موارده من المواد الخام والأسواق والأيدي العاملة البسيطة وعالية الكفاءة من المستعمرات ثم البلدان المتحررة حديثاً لاحقاً.
من ناحية أخرى، فأن التخوف من الشيوعية التي يمثلها الاتحاد السوفيتي، وطبيعة غالبية مجتمعات البلدان النامية الاجتماعية، جعلت البلدان النامية تعتمد في أغلب الاحيان منهج الإفادة من الدعم السوفيتي الاقتصادي والسياسي والعسكري، لكن في الوقت نفسه الحرص على توظيف هذه العلاقة لـ”إجبار” المعسكر الغربي، بالأخص واشنطن، للحصول على شروط أفضل في المعاملات المتنوعة، في ظل ميل الطبقة الوسطى في البلدان النامية نحو طموح العيش في بيئة الغرب الليبرالي ومغرياته الأستهلاكية.
وهو الأمر الذي أثار سخط زعيم الاتحاد السوفيتي في حينها نكيتا خروتشوف فقال مخاطباً الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1959:”مللنا، ولم نعد نقبل سياسية اللعب على الحبال التي تمارسونها..”، وهي كلمات اغضبت ناصر، فعاد الشيوعيون المصريون للسجون ثانية بدفعات كبيرة حتى عام 1964، بعد انفراجة ملحوظة أثر تمويل موسكو لمشروع السد العالي العملاق، الذي انسحبت واشنطن عن تمويله.
ولم يكن وضع العراق بعد 1968 يختلف عن سياسة ناصر، مع ملاحظة أن تقارب بغداد من موسكو كان يتفاعل بدرجة عكسية مع استقرار السلطة في بغداد، فبعد 17 تموز 1968، مع بداية مسك السلطة، كان للسلطات العراقية موقف متعاطف إلى ابعد الحدود مع موسكو، ضمن سياسة تحرص على الناي بالنفس عن الغرب عموماً، والولايات المتحدة بوجه خاص، فكان الموقف لسلطات ما بعد 17 تموز 68 “متطابقاً” مع موسكو من الوضع في جيكالوسلوفاكيا بزعامة دوبتشيك، ومن بعدها توقيع معاهدة الصداقة العراقية السوفيتية، والتطور الهائل في حجم التبادل الثنائي، بالأخص العسكري.
ومع أن بغداد برئاسة صدام حسين بدأت اجراءات قمعية واسعة ضد الشيوعيين منذ عام 1978، فأن موسكو حافظت على زخم ملحوظ لعلاقاتها في كافة المجالات بين البلدين، ضمن رؤية حساب مصالح مشتركة، حتى كانت الحرب على إيران، فرفض السوفيت جرهم إلى موقف معادٍ لإيران، وكان عذرهم “أن القيادة العراقية اتخذت قرار الحرب مع إيران دون التشاور مع موسكو، عليه فأن موسكو ليست ملزمة بالموقف العراقي..”
ومع كل تداعيات السياسة القمعية الداخلية للسلطة العراقية ضد كل القوى السياسية والاجتماعية حينها، بجانب ورطة الحرب التي استدعت من النظام البحث عن موارد تسليح مهما بلغت كلفتها، وكان الغرب مستعد لـ”تصريف” اجيال اسلحته القديمة بأغلى الأسعار، تم استنزاف الموارد العراقية، وصولاً إلى ان صار الدولار الواحد بسعر 3000 دينار، بعد غزو دولة الكويت وقبل برنامج النفط مقابل الغذاء.
ملامح استقطاب
حالياً هناك حالة جديدة من محصلة العلاقات الدولية وحجم القوى الدولية المتنافسة، فمن جهة تدخل الصين بكل ثقلها في التنافس التجاري، كذلك في مشاريع إقامة بنى تحتية ومشاريع انتاجية في ارجاء العالم، بالأخص في البلدان النامية. في ظل ملامح محور يضم الصين وروسيا والهند والبرازيل والأرجنتين وإيران، فيما لا يخفى غزل الأمير محمد أبن سلمان ولي عهد السعودية لهذا المحور، وحرص دولة الامارات العربية على تعميق العلاقات الثنائية الممتدة تاريخياً مع الهند.
تطمين مصالح الغرب
من ناحية اخرى، هناك الحرب الروسية الأوكرانية واستقطاباتها، في ظل أزمة طاقة مستعصية تواجه أوربا الغربية. وهذه الأزمة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، يمكن لها أن توفر افضل الفرص لتحقيق اكتفاء ذاتي واحتياط مستقبلي في مجال الطاقة الكهربائية، وهو الأمر الذي جاءت بوادره في زيارة رئيس الوزراء السيد السوداني إلى برلين والاتفاق مع سيمنز، بعدها إلى فرنسا لتحري تنفيذ مشاريع اخرى. فيما تبدي واشنطن رغبتها المتأخرة في معالجة ازمة الكهرباء من خلال جنرال الكتريك ايضاً، بعد أن كانت الحسابات الأميركية تستدعي إبقاء العراق في العصر الحجري على وفق ما طرحه وزير خارجيتها جيمس بيكر قبل تحرير الكويت، ضمن رؤية “تأديب” و”اقتلاع” كل احتمالات تنامي قدرات عصيان أو تعنت لاحقة لإرادة واشنطن ثانية.
وليس بخاف على أحد أن هذ التحرك الغربي ليس محكوماً بالمصالح الثنائية المتبادلة، التي كانت قائمة قبل الحرب الأوكرانية وتصاعد الموقف الداخلي في إيران، لكن بدون رغبة جدية في معالجة مشاكلنا الناجمة عن حرب الاحتلال الأميركي وتدميره البنى التحتية للدولة العراقية وتشريد كفاءاتها الوطنية. فواشنطن اليوم تتعرض لضغوط ضمان بدائل لإلمانيا وبقية أوربا عن الغاز الروسي، فهي تصدت عملياً لأي تقارب استراتيجي بين برلين وموسكو من جهة ،الذي يشكل انبوب الغاز الروسي شريانه، بكل ما يعنيه من حتمية توسع هذا الشريان ليشمل تقارب سياسي واقتصادي كبيرين لاحقاً، وهو الأمر الذي اكده مسؤول ألماني رفض الكشف عن اسمه من خلال تصريح نقلته صحيفة “تايمز” البريطانية الرصينة، قال فيه: إن “أميركا وبريطانيا وبولندا وأوكرانيا تستفيد من تفجير نورد ستريم”وهي ملامح يمكن تفهمها بشأن تحفظ واشنطن على تعرضها لعزلة دولية إذا ما تعززت وشائج التعاون بين أوربا الغربية وأوراسيا، روسيا، وأسيا الصين وبقية المحور الجديد.
وهنا تأتي بدائل الطاقة من الخليج العربي عموماً، والعراق خصوصاً، حيث للعراق احتياطي ضخم من الغاز والنفط، بجانب الاحتياط القطري واللبناني الإسرائيلي ايضاً للغاز، وهي موارد لتطمين احتياجات أوربا عموماً، والعملاق الالماني خصوصاً. ففرنسا لديها المورد الجزائري قائم، والمورد اللبناني الإسرائيلي في المنظور المرتقب.
بجانب هذا، هناك الحرص الأميركي على زيادة الضغط على الجمهورية الإسلامية في إيران، فواشنطن حالياً ترى أن بناء قدرات عراقية كهربائية وتنويع معاملاتها مع أوربا، وحتى الصين، يشكل تقويضاً لموارد نقدية عراقية دولارية تخفف من وطأة العقوبات ضد إيران.
وهكذا يبدو جلياً أن العراق الذي يعاني من فقدان بنى تحتية متماسكة، ومشاريع متلكئة ووهمية احياناً، أمامه فرصة ذهبية لتوظيف قدرات المارد الصيني من جهة، وحاجة اوربا للطاقة، وحرص واشنطن على إبعاد اوربا عن موسكو، ومساعيها لتشديد العقوبات ضد الجارة إيران، يشكل عوامل إيجابية لحصولنا عل على أفضل الفرص لتعزيز بنى تحتية متقدمة وتطويرها بكلف اقل من جهة، وتوظيف قدرات الصين لبناء الكثير حتى من البنى الفوقية ايضاً بأقل الكلف من جهة أخرى، إذا ما أحكمنا شروط العقود بالتنفيذ المباشر من قبل الطرف الصيني مع أشتراط توظيف أيد عاملة عراقية والأرتقاء بخبراتها من جهة اخرى، وليس اعتماد بعض مقاولي الباطن المحليين الفاسدين والفاشلين من اصحاب النفوذ وليس الخبرة التي عرفناها في رجال الأعمال العراقيين ما قبل الأحتلال الأميركي. وفي الوقت نفسه التلويح بالأطراف الغربية للحصول على تكنلوجيا متقدمة وأداء افضل لـ”إقناع” أطراف المحور الجديد بتقديم عروض افضل بكلف اقل دوماً، مع حقيقة بقاء مجالات متقدمة يتميز الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً بأمتلاكها وحاجة العالم عموماً لها، ضمنهم العراق.
صيانة مثلث العلاقات الإقليمية متساوي الأضلاع
إن ساحة التنافس والصراع الدوليين واستقطاباتهما الجديدة واضحة، وهي فرصة ذهبية للعراق، إن اجدنا إدارة تعاملنا الإقليمي والدولي، في ظل الحرص، كل الحرص، على افضل العلاقات في الوقت نفسه مع مثلث العلاقات العربية – الإيرانية – التركية بافضل حال، الذي تأتي زيارة وزير خارجية المملكة العربية السعودية لبغداد بعضاً من ملامحه المستجدة لتسترجع وشائج العراق العربية والأقليمية ،وفق معايير السيادة الوطنية وليس التبعية لأي طرف، التي كانت خليجي 25 تظاهرة ليس لكرة القدم إنما الانتماء العربي في خليج العرب أو خليج البصرة فكلاهما عربي. في ظل علاقات إيرانية “حارة” جداً تستدعي المراجعة إلى مستوى العلاقات الثنائية الدافئة الوطيدة.
فرصتنا النادرة بعد عصر القطبين —-
(Visited 44 times, 1 visits today)