لعينيها أُغنّي

لعينيها أُغنّي

بعد خفوت لمعانها وتواريها عن بيت الطاعة الشعري ، يجتهد الشاعر هلال الشيخ علي من خلال مجموعته الجديدة ( لعينيها أُغنّي ) من إعادة احضارها الى دائرة التذكر والتداول القرائي التي أتسعت افاقه وتنوعت اهتماماته واغراضه لأسباب لست في معرض الخوض في أسباب ذلك في هذا الحيز المخصص لغير هذا ، ويبدو أن واحداً من أهم أسباب هلال الشيخ لهذا النموذج الشعري يتصل ــ كما أرى ــ بالشيخوخة البدنية وانطفاء جذوة الشباب في روحه وهو الذي انجبته قريته الفراتية محاويل الامام عام 1935م ، وترعرع في ظلال نخيلها وضفاف سواقيها وبين ثغاء اغنامها وهديل يماماتها ، وبين مكابدات حياة وسمتها ظروف ثلاثينات القرن العشرين بأوجاع قراها التي ظلت تئن تحت وطأة الاستبداد والجوع والمرض حتى تموز 1958.
في هذه الأجواء كان والده الشيخ ــ والشيخ هنا صفة لمعلم الأولاد واغاثة المحتاجين للرأي السديد والنصيحة الناصحة.
وفي ( لعينيها أُغنّي ) تعويض عن خسارات الزمن وانعكاساتها على قواه الجسدية التي ضمرت أو ربما تلاشت بفعل بلوغ عمره المديد ، وهذا تحصيل حاصل وأمر مفروغ منه ، اذ تتعطل في هذا العمر اجزاء مهمة من الجسد وتصاب بالعطب أو الكسل الدائم :
يا سيدتي
نكاية بالثمانين
أزوق احلامي
لتليق بك
ويا عصفورتي
الشائخة
اقتربي مني
مازال في موقدي
بعض الدفء

فالشاعر رغم ثمانينه ونكاية بها مازال ــ كما يدّعي ــ يزوّق أحلامه ومازال في موقده الخامد بعض الدفء ، وفي وهذين المقطعين يعبر الشاعر بصدق عن متون نصوص ( لعينيها أغنّي ) التي يكشف عن المخاطب بقوله : « الى جوريتي التي تحملتني كل سني العذاب وتجاوزنا معاً كل صعاب الطريق , صابرة مخلصة».
وأزعم ان هلال الشيخ علي اراد ان يقنع الآخر بحيويته المطفأة فكتب لها هذه النصوص ، التي تقطّر رومانسية وغزلاً شفيفاً لم أقرأ له مثله في مجامعيه المبكرة التي اقتربت من الاصدار الثامن عشر بين شعر فصيح وآخر باللهجة العراقية المحكية.
وهذا الأصرار والتشبث بالماضي والتعلّق بفروسية كبت ، يؤكد ان الشاعر مازال عاشقاً دنفاً ومحباً صادقاً لمن شاركته الحياة وانجبت له الذرية الطيبة ، وقد استغرق في قراءة نصوص الغزل العذبة ، فهي تذكرنا بشبابنا الآفل وخسارتنا الموجعة ، والملاحظ ان معظم نصوص هلال الشيخ علي تتحدث عن الماضي بزهو ومتعة ( كان … كنت ) في حين نجد ان الحاضر يتوارى في طيات بضعة نصوص لتبرهن على مشاركة الشاعر في قضايا مجتمعه المتخم بالمرارات والانكسارات والهزائم…
دعوني أمارس خيباتي
أريد ان تفحصها
واحدة واحدة
سأذهب فيَّ
في دواخلي السرية
وأمارس
جنون الافتتان
بعظمتي الزائفة
ثم أعلن لجلجامش
المختبيء في اعماقي
أيها الكاذب أنت
لم تقتل خمبابا
فما زال زئيره من موقعه البعيد
يثير الرعب
على شواطئنا …..

في هذا النص يلخص جوهر المشكلة التي يثيرها ( خمبابا ) العصر مقترباً من مياهنا مثيراً الفزع في قلوبنا وتلك هي خلاصة الأمر كما نرى ويرى هذا الشاعر العراقي الذي ارتوى من سلسبيل فراته ، وأختار النقاء منذ أول كأس.
وهكذا هم أبناء الوطن كلهم ــ نعم كلهم ــ يفتدونه بالغالي مرخصين الارواح من اجل حريته وسعادة ابنائه الأوفياء ، وعودة الى رومانسية الشاعر وجمال روحه نقرأ معاً هذا الغزل الآسر :
وكنت اذا مرّ المساء
وأدلجت
خطاي إليها
ما رأتها المسامع
فما راعني إلا حفيف
ردائها
وهمس خطاها
والعبير المتابعُ

شكراً لك ايها الشاعر الشيخ الذي أوقد فينا الموات ، وأعادنا الى تلك السنوات والأيام الخوالي ، التي كتبنا فيها وصغنا من حوادثها أجمل الحكايات والنصوص المعبرة عن إنسانيتنا وحبنا لمواطن الجمال والأمل…

(Visited 15 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *